في مثل هذه السن… ماذا لديك لتخسره؟

في مثل هذه السن… ماذا لديك لتخسره؟

في مثل هذه السن… ماذا لديك لتخسره؟

في مثل هذه السن… ماذا لديك لتخسره؟

في مثل هذه السن… ماذا لديك لتخسره؟

في مثل هذه السن… ماذا لديك لتخسره؟

في مثل هذه السن… ماذا لديك لتخسره؟

شارك

في مثل هذه السن… ماذا لديك لتخسره؟

في مثل هذه السن… ماذا لديك لتخسره؟

جسر: متابعات
بالتزامن مع اقتراب انعقاد المؤتمر العالمي للمناخ وما يحيطه من صخب، ومع ارتفاع حدة المخاوف المحيقة بكوكب الأرض، جراء التغيرات الدراماتيكية في درجات الحرارة ونسب الغازات وغيرها، يخرج علينا الإعلام العالمي بصور سيدة رشيقة نشيطة تمتلئ حماسا وتقف في عشرات الوقفات والتظاهرات لتخطب ضد من لا يبالون بالكارثة البيئية وتداعياتها، بل ويتسببون فيها..

هذه السيدة هي النجمة الأميركية التي تجاوزت الثمانين جين فوندا. سوبر ستار السبعينيات والثمانينيات، وابنة النجم الأميركي العالمي هنري فوندا، والثرية منذ مولدها، والتي تعيش حياة الرفاهية الأميركية في قمتها، وتحوز الشهرة بتاريخها الفني ولو لم تفعل شيئا آخر غيره. لكنها لم تتوقف منذ خمسين عاما عن المشاركة في الشأن العام والوقوف خلف ما تؤمن به. وتصف ذلك مرة بقولها: “ارتق لمستوى نفسك وكن شجاعا”..

ياله من معنى! إنسان يرى في نفسه العزة والمنعة والقيمة التي يستطيع بها حمل الحق في مواجهة العالم.. فما أسعده! والحقيقة أن حماسها وكفاحها في مسألة التغير المناخي هذه يثيران الدهشة فعلا. فالسيدة على أبواب الثانية والثمانين، وتستطيع، بمالها وجاهها، قضاء ما تبقى من عمرها في أنقى بقاع الأرض مهما أصاب الكوكب من كوارث، فلِمَ التعب؟!

يسألها المذيع:
من أين تأتين بالدافع لكل ما تقومين به؟!

فتواصل عيناها اللمعان، وتتابع الحديث بحماس فتاة في الخامسة عشرة وهي تجيب: بمجرد وصولي إلى فهم شيءٍ ما على حقيقته، فإنني أشعر بالمسؤولية وبضرورة نشر الحق الذي أعرفه، وإلا أصبحت شريكة مع الباطل بالتواطؤ والصمت. وعلى المرء استخدام كل قوة لديه لمساندة الحق الذي يؤمن به.. بالذات قوة الشهرة والنجومية والقدرة على التأثير. وأنا، بالأحرى في هذه السن، لديّ فرصة عظيمة لفعل كل ذلك.. إذا ماذا لديّ في هذه السن لأخسره؟

كم مرة راودني هذا السؤال وأنا أقرأ لصحافي ثمانيني من صحافيي هذا الزمن الكبار وهو ما زال يتحمل عبء حمل القلم لكي ينافق أي سلطة بفجاجة، ربما لم يصل إليها وهو أصغر سنا وأقل مالا وشهرة. بعضهم والله لو كتب مقالا في الهوى والغرام لوجدت فقرة فيه تهيم بهوى سلطة بلادي!

وكم مرة سألت ذات السؤال لنفسي بحزن حقيقي، وأنا أستمع لأحد مشاهير فنانينا وقد تجاوز السبعين أو الثمانين، وما زال يتحدث في الصحف والبرامج ليسيء لعوام الشعب ويتهمهم بالظلم وقصر النظر تملقا للحكام والمسؤولين ورفعا لأي مسؤولية من على عواتقهم.

أتذكر مدى رثائي لهوان أحدهم مرة، وهو يمثل البكاء بالدموع حزنا على شكاوى الشعب المزعجة من الغلاء وسوء الأحوال وعدم تقديرهم لإنجازات الرئيس، وكان أسوأ أدواره على الإطلاق بكل أسف.

وكم مرة افتقد القارئ منا وقت أزماتنا ومحننا الكثيرة، أسماءً لامعة في الأدب والكتابة ضنت على الوطن بكلمة الحق وآثرت سلامة الصمت، وملأ الورق بكل شيء عدا الكلام في صلب ما يُشقِي الناس.

أصبح الكلام عن أن الفن رسالة وأن الكتابة والإعلام منابر تنوير، وأن الصحافة سلطة رابعة، وأن الطبيعي لكل هؤلاء هو الوقوف على يسار السلطة لنقدها وتوجيهها، كلاما باليا عفا عليه الزمن ولا يثير سوى التهكم على قائله واتهامه بالسذاجة والرومانسية، أو بهواية إلقاء النفس في التهلكة وادعاء شجاعة زائفة. ناهيك طبعا عن اختفاء غالبية كبار السن والمقام والشهرة والجاه من المشهد بالحجة المعاكسة: في هذه السن.. ماذا بيدنا لنفعله؟!

وخرج علينا أحد أثرياء فناني اليوم مؤخرا برأي في منتهى الدلالة على هذا الفهم، إذ صرح، بوصفه “نمبر وان” الفن المصري الآن، أن الفن هو “مسكن الشعوب”.

لقد جاء الرجل بما لم يأت به الأوائل.. ولا الأواخر والله. تخيل! الفن أصبح عندنا مسكنا للشعوب! وليس حتى متعة الشعوب أو ترفيه الشعوب! وكأن الرجل في عنفوان شبابه وقمة شهرته وثرائه، وهو يتقاضى الملايين من جيوب الناس، ويتباهى بماله ومكانته ونفوذه وسياراته وطائراته ليل نهار، لا يرى لنفسه دورا مقابل ما يأخذه سوى إلهائهم عن أوجاعهم! لا يرى نفسه حرية بما هو أعلى من ذلك بالرغم من كل ما يملكه! .. هي نظرة الإنسان لنفسه إذن وشعوره الحقيقي بقيمتها واستحقاقها وليس أي شيء آخر.

أفكر في ذلك كله، ويمر بخاطري “حلف الفضول”.. أتذكرونه؟ إنه الحلف الذي شاركت فيه كبرى قبائل مكة قبل البعثة بسنين طويلة، وكان الرسول الكريم فيه وهو في عشرينيات عمره. وقصته باختصار أن مكة كانت أكبر مركزٍ ديني وتجاري في المنطقة بأسرها، وحظت قبائلها الكبيرة بالتالي بالجاه والمنعة والغنى، وسيطرت على مقاليد التجارة وخدمة الحجيج، وعاشت تفاخر بذلك بين العرب. وكان أن تاجَرا أعرابيا غريبا مع أحد كبراء مكة، فظلمه الأخير ورفض إعطاءه حقه بعدما أخذ منه بضاعته. فأسقط في يد الأعرابي وذهب يشكوه لبعض هامات البلد الكبيرة النافذة، فما كان منهم إلا أن نهروه وسخروا من وقوفه في وجه ذي المال والصيت والعشيرة، ولم ينصروه. فوقف الرجل على أحد الجبال المطلة على الكعبة وقت زحام الطواف، وأنشد شعرا يحكي فيه مظلمته ويهجو ظالمه ومن ناصروه بالتخاذل والصمت، فسمع ذلك كبراء قبائل مكة، واستخزوا أن يُظلم ضعيف غريب في حرم الكعبة، وهم يدّعون قيامهم بالحماية والوفادة والسقاية، وينالون لقاء ذلك الجاه والمال، فاجتمعت رؤوس معظم القبائل في دار أكبرهم، وتعاهدوا على نصرة المظلوم والضرب على يد الظالم أياً من كان. ومعروف ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في مديح ذلك التحالف بعد الإسلام واستعداده للمشاركة في مثله بعد البعثة.. إذ قال: “لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حُمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت”.

أي أن خير الأنام يفخر بمشاركته في تحالف جاهلي كان يذود عن الحق ويدرأ المظالم، ولم يكن ليستبدل مشاركته فيه بأضخم الثروات، ولو كان في زمن الإسلام مثله لشارك فيه.

ها هو نفس المعنى إذن.. الأنفة والنفوس الكبيرة العالية التي تعف عن الظلم وعن السكوت على الباطل ولو كانت لجاهليين كفار كبار سن. فنعم النفوس ونعم المعاني. وليت جاهليتنا الحديثة تحظى ببعض ذلك والله فننجو!

المصدر: العربي الجديد

شارك