عبد الناصر العايد
توفيت في باريس، صباح أمس الخميس، السيدة الاستثنائية بسمة قضماني، عن عمر ناهز 65 عاماً، بعد جولات من الصراع مع مرض عضال ألمّ بها في السنوات الأخيرة، مُخلّفة حزناً عميقاً لدى كل من عرفها أو عمل معها، يتجاوز مشاعر الفَقد المعتادة في مثل هذه الحالات، ليكون نوعاً من الافتقاد لسيدة لا يسع كل من عرفها سوى التأثر بفرادتها إلى درجة الافتتان في بعض الأحيان.
عرفتُ بسمة قضماني، مثل معظم السوريين، في العام 2012، حين أطلت علينا كمثقفة وقريبة إلى القلب والعقل معاً، كمتحدثة باسم المجلس الوطني السوري المُعارض، ثم التقيتُ بها شخصياً في إسطنبول العام 2014، بُعيد إنجاز ونشر أول عمل لي ضمن إصدارات “مبادرة الإصلاح العربي” التي تديرها، إذ دعاني الصديق سلام الكواكبي، مدير البحوث آنذاك، للكتابة. وتعمقت علاقتي بها بعد انتقالي إلى باريس، حيث مُنحت صفة باحث زائر في مركز “المبادرة”، وأنجزتُ عدداً من الأبحاث وأوراق السياسات لصالح “المبادرة”، كان آخرها مساهمتي في كتاب “الخروج من الجحيم” الذي تناول إمكانات إصلاح الجيوش العربية، وقد أنجزته مجموعة من الباحثين تحت إشراف قضماني، وساهمتُ فيه بالجزء الخاص بالجيش السوري.
أول ما أستطيع أن أخبره عن بسمة قضماني، من خلال معرفتي بها في سنواتها الأخيرة، هو تصحيح المعلومة الخاطئة عن عملها في المجال العام والشأن السياسي السوري، إذ يحلو للبعض وصفها بأنها جاءت من الخارج، وهي منبتة عن المجتمع السوري المعارض وقد انخرطت فيه في العقد الأخير من حياتها فحسب. والصحيح أن معارضة نظام الأسد، كانت العقد المؤسس لشخصيتها ولمصيرها برمته. فحين كانت بسمة في نحو العاشرة من عمرها، أي في العام 1968، اعتقل نظام “البعث” والدها وهو موظف مرموق في الخارجية، على خلفية انتقاده لحافظ الأسد، وزير الدفاع آنذاك، بسبب مجريات حرب حزيران والانسحاب المذل من الجولان. وحين خرج السيد ناظم قضماني من السجن، غادر وظيفته في الخارجية، وحمل عائلته الصغيرة متوجهاً بها إلى لبنان. وبعد سنتين من ذلك، تحصّل على وظيفة في الأمم المتحدة بلندن ورحل إليها نهائياً عندما استتب الأمر لحافظ الأسد العام 1971، إذ كانت قناعته التي سرّبها إلى بسمة الطفلة، أن تلك البلاد وقعت في مخالب الوحش، وأن جزءاً من واجب السوريين الأخلاقي أينما كانوا هو تخليصها من ذلك المصير.
ووفق أحاديث معها، فقد دفعتها تلك التجربة المبكرة إلى اختيار التخصص في العلوم السياسية بأعلى درجاتها، واختارت لذلك معهد الدراسات السياسية في باريس Sciences Po الذي نالت فيه شهادة الدكتوراه، وأتاح لها ذلك المكان معرفة وطيدة بمن سيشكلون لاحقاً نخبة العمل السياسي والدبلوماسي الفرنسي، والعمل معهم في مراحل عديدة، كما حين تسلمت إدارة قسم الشرق الأوسط في معهد العلاقات الدولية الفرنسي، وهو أحد المطابخ الفعلية للسياسة الخارجية الفرنسية. وعبر شبكة علاقات العمل وزمالة الدراسة، إضافة إلى تأثيرها الشخصي والاحترام الذي يكنه لها زملاؤها وأصدقاؤها الفرنسيون، تمكنت قضماني من وضع القضية السورية في جدول أولويات الساسة الفرنسيين، سواء في قصر الإليزيه أو وزارة الخارجية، وهذا ما جعل الموقف الفرنسي ربما الأكثر تقدماً في هذا الاطار، لا سيما في عهد الرئيس فرانسوا هولاند.
هذا لا يعني أن بسمة قضماني كرست نفسها فقط للشأن السوري، وللعمل في أعلى مؤسسات الدولة الفرنسية. قبل ذلك، حملت همّ القضية الفلسطينية، مثل أي فلسطيني/ة، وعملت لسنوات طويلة كمناضلة فلسطينية بالدرجة الأولى، وربطتها علاقات متينة مع مناضلين ومثقفين فلسطينيين، على رأسهم الشاعر محمود درويش، علاوة على ارتباطها في زواجها الأول بفلسطيني أنجبت منه أبناءها الثلاثة.
اهتمامها تعدى ذلك إلى المحيط العربي ومشكلة الديموقراطية المزمنة فيه، فتبلور في مشروع “مبادرة الإصلاح العربي”، وهو تحالف لعدد من مراكز البحوث والسياسات العربية، خططت له وقادته منذ العام 2005. وأنجزت المؤسسة عدداً هائلاً من الأبحاث والدراسات وأوراق السياسات، ضمن مفهوم التحول إلى الديموقراطية في العالم العربي، وتخلت عن رئاسة مجلس الإدارة العام 2019 في أوج ازدهار المؤسسة، مُفسحة الطريق لآخرين ليكملوا المشوار، في سلوك فريد لا يتشابه مع ما اعتدناه من هيمنة المؤسِّسين على المنظمات غير الربحية حتى نهاية حياتهم أو انهيار المؤسسة وتلاشيها.
لم تكن مغادرة قضماني لموقعها في “المبادرة”، إشعاراً بالتقاعد، كان في الواقع إعلاناً عن انطلاقة جديدة متحررة من قيود العمل البيروقراطي والتزاماته الثقيلة. فهي كانت تخطط للخروج من المكتب إلى فضاء العمل الحي بين الناس، وإنجاز مؤلفات مؤجلة، ومقاربة مستويات ونوعيات من العمل لم يتم التطرق إليها سورياً وعربياً بعد. وكان من بين شواغلها في هذا الإطار، تحرير الطاقة السياسية للمرأة السورية والعربية عموماً، سواء على صعيد تمكين المرأة تعليمياً واجتماعياً واقتصادياً، أو من خلال إنشاء ودعم منظمات من النساء تناضل من أجل حقوقهن ومن أجل تغيير المجتمع ككل في نهاية المطاف. لكن المرض داهمها بلا إنذار، واختطفها من على عتبة تلك المرحلة التي كانت لتتوّج تجربتها وخبراتها وأحلامها. ولعل جيل الفتيات والنساء السوريات المنخرطات في الشأن العام، وشبكاتهن الآخذة في الاتساع والفاعلية، ستكون الأكثر افتقاداً لحضورها المُلهِم وعونها الحاسم.
إن اهتمام بسمة قضماني بالنساء، ليس وليد رفاهية أو استجابة لتيار كوني، بل حاجة اختبرتها ولمستها بنفسها من خلال الأذى الذي تعرضت له منذ الأيام الأولى لظهورها في المسرح السياسي، والذي يمكن تسميته بكراهية المرأة لدى فئات من مجتمعنا، بما فيه عدد لا بأس به من المثقفين المزعومين، وآثار ذلك ما زالت ماثلة حتى بعد وفاتها. لكن بسمة قضماني لم تسمح لنفسها، ولا لمن اتخذن منها معلّمة ومرشدة، بتحويل تلك الكراهية إلى دعوة لعدائية مضادة أو تطرّف نسوي. فقد كانت بسمة على الدوام ملمّة بكامل المشهد ومن منظور تاريخي بعيد النظر، فمشكلة المرأة في مجتمعاتنا هي مثل قضايا التحرر السياسي والتقدم الإنساني، مشكلة المرأة والرجل معاً، ولا يمكن حلها سوى بالعمل الدؤوب المستمر، وهذه هي النصيحة التي كانت لا تملّ من إسدائها لكل من يحيطون بها: “لا تتذمروا.. اعملوا!”. وهي القاعدة التي عملت بها حتى في خضم صراعها مع المرض. ففي الجولات التي كان يغلبها فيها، كانت تتوارى وتخوض معركتها بصمت بعيداً من الأنظار، وما إن تتحسن صحتها حتى تبرز إلى ميدان العمل معلنة أن كل شيء على ما يرام، وتبدأ بتفحص ما تم إنجازه وتواصل مسيرتها، مُتجاهلة “الخبيث” البيولوجي الذي يتربص بها، ومُشرّعة كل أسلحتها التي ترتكز على إرادة واعية، للخلاص من الخبيث الاجتماعي والسياسي الذي يتربص بأمّتها وشعبها.
برحيل بسمة قضماني، يبرز القلق. فهذه المرأة لا نظير لها، والموقع القيادي الرائد الذي صنعته لنفسها لن يملأه أحد في المستقبل المنظور. لكن مسارها وظروف صعودها في المشهد العام، والذي تشاركته مع مئات النساء والفتيات، يجب أن يهزم هذه المخاوف، وأن يستأنف الجميع مسارها وحلمها من نقطة رحيلها بالذات. إذ يجب تكريس بسمة رمزاً للمرأة السورية القائدة، وتطويبها بشعارها الأثير: “هيا إلى العمل!”.
المصدر: المدن