جسر: قضايا:
دخل قانون قيصر حيز التنفيذ في 17 يونيو/حزيران، وجاءت ردات فعل السوريين بين مؤيد ومعارض له، وبالنظر في تجارب العقود الماضية، نجد أن العقوبات الأميركية والأوربية لم تفلح في إسقاط الأنظمة، سواء في العراق أيام حكم صدام حسين، أو في فنزويلا حين تسلم مقاليد السلطة خافيير شافيز، بالإضافة لكوريا الشمالية وكوبا وليبيا وإيران وغيرها.
وبعد المقارنة بين هذه التجارب والحالة السورية يتلاشى الأمل برحيل النظام نتيجة العقوبات، ونصطدم مع الحالة الإجتماعية والاقتصادية القاسية والمريرة التي يمر بها السوريون هذه الأيام.
عشتُ خمس سنوات من الحصار القاسي الذي فرض من قبل النظام السوري على مدن وبلدات ريف دمشق، حيث كنا في مساحة صغيرة جغرافياً يتواجد فيها عدد كبير من السكان، يمنع عنا الماء والكهرباء والغذاء بكل أشكاله، ويمنع الدخول والخروج إلا لبعض الحالات الاستثنائية. في داخل هذه المنطقة فُقِدَّ كل شيء تقريباً، وتضاعفت الأسعار إلى أكثر من عشر أضعاف، كان الوضع جنونياً، وأصبح التجول ليلاً في الشوارع مخيفاً، وصار مألوفاً أن تشاهد أجسام نحيفة وشاحبة، تبحث في القمامة عن الطعام.
الكثير ممن عاش الحصار يعلم ما معنى الجوع، وتناول وجبة واحدة كل يوم أو كل يومين مرة، وحتى لو وُجدّت النقود فالغذاء والدواء غير متوفر، رغم ارتفاع أسعار السلع بشكل لا يُصدقه العقل.
بالتأكيد الجوع تجربة قاسية جداً فهي تشعرك بالضعف والوهن المستمر وتستهلك طاقتك اللازمة للبقاء، لذلك يستحيل على شخص مثلي عاش تجربة الحصار والجوع، أن يتمناها كإنسان إلى إنسان آخر، مهما كان هذا الإنسان مؤيد للنظام السوري أو معارض، الجوع الذي سيضرب سوريا لن يميز بين الضحية والجلاد، ولكن الضحية ستكون الأكثر عرضة للجوع من الجلاد، فالضحية تم تهجيرها من أرضها وتعيش في خيام لاتقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء، مع انعدام العمل لرب الأسرة، أيضاً لدى المؤيد للنظام السوري الذي شارك في قمع الشعب عائلة مكونة من أطفال معرضون للموت جوعاً، ولا ذنب لهم بما اقترف والدهم من إجرام ضد باقي فئات الشعب السوري .
يعيش في مناطق سيطرة النظام غالبية شعبية لم تشارك بالاعتقال والقتل والتشريد، وعلى العكس تماماً فهم بالنهاية ضحايا هذا النظام، ودفعتهم الظروف للعيش تحت حكمه في حالة من الخوف والقلق المستمر، فما ذنبهم حتى يتحملون تبعات قانون قيصر بزيادة فقرهم وجوعهم.
خلال فترة الحصار كان الحديث السائد بين المحاصرين عن ضرورة الصبر وتحمل الجوع أكثر فأكثر، فالمعتقد السائد في وقتها “النظام ساقط لا محالة هي مسألة وقت فقط”، ينتشر هذا الكلام اليوم بين المعارضين وعلى نطاق واسع، ولكن لايجد آذاناً صاغية من مختلف فئات الشعب، وخاصة ممن عاش تجربة الجوع سابقاً، فلم تعد الوعود السياسية والتصريحات تعطيهم الجرعة المناسبة لبث الأمل في نفوسهم,
قبل دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، بدأت الليرة السورية تنهار وبشكل متسارع، العقوبات لاتستهدف العملة السورية بشكل مباشر، ولكن الخوف من المجهول، زاد الطلب وبشكل كبير على الدولار في سوريا، هذا الحدث كان له سلبيات كارثية على الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.
يقول أبو حسن من مدينة حمص والذي يعمل في وزارة النفط التابعة لحكومة النظام “راتبي حوالي ستون ألف ليرة سورية، أصبح يكفيني فقط لأربع وجبات طعام لعائلتي المؤلفة من سبع أشخاص، خوفي من جوع أطفالي دفعني إلى أن أبيع قطعة الأرض التي أملكها والتي كنت أزرعها وأهتم بها منذ عشر سنوات، واعتبر نفسي محظوظاً فلدي شيء لأبيعه، في المقابل هناك أشخاص لا يملكون ثمن كسرة الخبز ولا يملكون شيئاً ليبيعوه، وحتى قطعة الأرض تلك، لن تكفيني إلا لثلاثة أشهر، وبعدها لا أعلم كيف سأتدبر أموري لأطعم أطفالي” .
مع فرض العقوبات على النظام السوري منذ 2011 بدأت البنوك الأجنبية حول العالم، بإيقاف التعامل مع البنوك السورية أو الشركات العامة والخاصة، خوفاً من ارتداد العقوبات عليها، لذلك أصبح هناك صعوبات كبيرة بالتحويلات النقدية إلى سوريا، على النظام السوري وباقي الشركات الخاصة والمنظمات الإنسانية والحقوقية وعلى عموم السوريين، وخاصة الموجودين في أوربا كالاجئين، حيث وبشكل شهري يحولون مبالغ نقدية إلى أهاليهم، وتعتبر هذه الحوالات المالية المنفذ الأساسي لسد جوعهم.
“أبو أحمد” يعمل موظفاً في محافظة ريف دمشق وراتبه 44 ألف ليرة سورية، لا تكفيه إلا بضعة أيام فقط، ويعتمد على التحويلات المالية القادمة من ابنه في ألمانيا ليستطيع إطعام أطفاله، تلقى حوالة مالية كما هي العادة كل شهر، كانت الأصعب عليه حيث تلقاها بالعملة السورية، وبأجرة تحويل عشرة بالمئة من قيمتها وهذا مبلغ كبير بالمقارنة مع تحويلات قبل العقوبات.
يقول أبو أحمد “ما كان لي فرصة بالحصول عليها لو لم يكن هناك ثقة بالتعامل بيني وبين مكتب الحوالات السري في دمشق، منذ سنوات، فالنظام يفرض غرامات مالية كبيرة وسجن لمن يزاول هذه المهنة بإعتبارها خطر على الاقتصاد السوري”.
القانون يمنع وبشكل نهائي إعادة الإعمار في سوريا، ولكن هناك استثناءات لمشاريع إعادة الأعمار المحلية والفردية، ومع التداعيات غير المباشرة من ارتفاع الأسعار في سوريا والمتعلقة بقانون قيصر، تجعل أيضاً من إعادة الإعمار المحلي أو الفردي أمراً شبه مستحيل التنفيذ ، فبحسب تجربة أبو علي في ريف دمشق الذي قرر أن يبني غرفة لابنه ضمن بيت العائلة بغاية تزويجه فيها “صعب جداً على الانسان إنه يقوم بصيانة ما في بيته أو يعمر غرفة جديدة، وسعر طن الأسمنت حوالي مئة وستة آلاف ليرة سورية، وسعر طن الحديد مليون وأربعمائة ألف ليرة سورية، أي أن غرفة بمساحة أربعة أمتار مربعة ستكلف، مليوني ليرة سورية، إنه رقم خيالي وهذا ما لا يمكن تحمل تكلفته”.
العقوبات تستهدف إنتاج النفط في مناطق النظام ولكن غالبية الإنتاج يكون في مناطق قسد، وأسعار المحروقات في ارتفاع مستمر.
“جواد” مقاتل في الفرقة الرابعة التابعة لقوات النظام في مدينة درعا يسرق من المحروقات المخصصة للآليات والدبابات ويبيع في السوق السوداء، ويعتبر ذلك مصدر الرزق الأساسي له لأن الراتب لايكفي ثمن دخان و مشروب كحولي له، فيقول” أنا صحيح بسرق وببيع مازوت بس غيري من ضمن الفرقة يبيع المخدرات والحشيش للعساكر ويخطف ويأخذ فديات، أنا أخترت الطريق لي مافي ضرر كبير على غيري”. لذلك بشكل عام من فرضت عليه العقوبات هو من يعمل على استغلالها لصالحه، وبناء تجارة جديدة في السوق السوداء.
بدون أدنى شك أبدي اِسْتِعْدادِيّ مع نسبة كبيرة من السوريين المعارضين للنظام بشكل علني الذين يقطنون خارج مناطق سيطرة النظام في مناطق شمال أو شرق سوريا، أو المعارضين بشكل غير ملعن تحت حكمه خوفاً من الإعتقال، لتحمّل جميع التداعيات المباشرة وغير المباشرة للعقوبات الأميركية علينا مدة من الزمن، رغم أنها ستكون الأقسى والأصعب مما مررنا به سابقاً، ولكن تحمّل كل هذه التداعيات دون أدنى أمل برحيله عن الحكم هو عقوبة جماعية بتجويعنا لا أكثر.
أرى أنه في حال وجود رغبة أميركية حقيقة لطرد نظام الأسد من الحكم دون أن تؤدي إلى تجويعنا، فهذا يكون تحت التهديد المباشر للنظام للقبول بالإنتقال السياسي دون مراوغة، أو توجيه ضربة عسكرية قاصمة تجعله يقبل على مفاوضات جدية وبدء انتقال سياسي.
الكاتب: قصي جوخدار باحث في الشأن السوري.