جسر: ثقافة:
ليس كما كان، رواية أخرى تتناول أدب السجون والاعتقال السياسي في بلادنا. تتناوب فيها الأصوات بلغة المتكلم، الشخصية المحورية فيها هو راضي المعتقل السياسي، وبعض ممن يرتبطون به.
تبدأ الرواية من واقع تعذيب راضي على يد الرائد رتيب وعناصره في قبو لأحد الفروع الامنية. راضي يتعرض لتعذيب شديد، مُطالب أن يعترف بعلاقته بعماد، وان يقدم معلومات عن وضعهم الحزبي وكل ما يتعلق بهم. عماد ايضا معتقل معه في ذات الفرع الأمني، ويتعرض للتعذيب مثله. يسأله المحقق عنه هل يعرفه؟، فيجيبه نعم أعرفه، يسأله عن اسمه؟. فيخبره أن اسمه عماد، ويخبره المحقق أن هذا اسمه الحركي ما هو اسمه الحقيقي؟، يجيبه انه لا يعرف. عماد لا يتكلم وراضي لا يعترف والرائد رتيب المحقق يصرّ على أن يحصل على المعلومات منهما، يأمر عناصره بتعذيب راضي بالضرب والشبح والوضع في الدولاب، يفقد الوعي أكثر من مرة، ويعاد معه التحقيق مجددا ولا جواب عنده. كان راضي قد تعرّف على عماد في لبنان وهكذا كان اسمه الحركي، يتذكر علاقته به وبالشلّة المحيطة به في ذلك الوقت، يتحدثون عن لبنان الذي تهيمن عليه قوى دولية كثيرة. الرائد رتيب مصرّ على إجبار راضي على الاعتراف و راضي لا يستجيب رغم التعذيب الشديد، يصل راضي الى درجة يفقد فيها الوعي ويدخل في غيبوبة، يحاول عناصر الأمن أن يعيدوا إليه وعيه بكل السبل؛ ولا أمل. الرائد رتيب محقق يعتز بقدرته على انتزاع الاعترافات من المعتقلين، مفوّض باستعمال كل الوسائل والأساليب للوصول الى المعلومات المطلوبة، شريطة ان لا يموت المعتقل، ليس لأن حياته مهمة بذاتها، بل لكون النظام حريص أن لا يسمح للمنظمات الدولية بالتشهير به إن مات المعتقلين تحت التعذيب، ولأن موت المعتقل يعني فقدان معلومات من الممكن أن تكون مهمة. رتيب ضابط أمن في هذا الفرع، يُعرف عنه بطشه وقدرته، له سطوة وجبروت، هو بالأصل من قرية ساحلية، تزوج من ابنة قريته بعد تخرجه كضابط في الجيش، لكنه عجز عن معاشرتها جنسيا، مما ولّد في نفسه عقدة انعكست بقسوته وتسلطه كضابط أمن. كان زواجه منذ ست سنوات وزوجته تعيش معه مغلوبة على أمرها صابرة على مصابها تهاب بطشه وتتحمل جبروته.
يعوض رتيب مشكلته الجنسية مع زوجته عبر علاقات غير شرعية مع نساء كثيرات، كانت آخرهن فتاة دمشقية أصبحت صاحبته يجامعها كلما أراد، عوضته هذه العلاقة عن عقدة نقصه باتجاه أبناء المدن وخاصة الدمشقيين. يعيش حياته بهذا الشكل، يبحث عن مجد له من خلال عمله الأمني، ينتظر أن يترفع رتبة أعلى، يفكر دائما بإرضاء رؤسائه، ويحاول أن يدفع راضي للاعتراف بأي شكل. لكن راضي دخل في غيبوبة من شدة التعذيب، أصبح بين الحياة والموت. استدعى الرائد رتيب الطبيب على عجل لمعاينة راضي، الطبيب أخبره بضرورة تحويله للمستشفى لعلاجه، ليتم نقله بصحبة مرافقة أمنية كبيرة، استنفر المستشفى لأجله، حضر طاقم طبي مؤلف من أربع أطباء لمعاينته، الأطباء خائفون من الضابط وعناصره، الأمن يزرع في نفوس الكل الرعب، يتصرف الضابط مع الأطباء بعنجهية وفوقية وتسلط وكذلك عناصره. يأمرهم: يجب أن يعيش ويتكلم وبأسرع وقت. انتظرهم عند رئيس المستشفى الذي تصرف بقسوة مع أطبائه؛ إن الأمر يتعلق بأمن الوطن!!. حاول الفريق الطبي معالجة راضي لكنه لا يتجاوب. يستشيط الرائد غضبا ولا حل، كانت الطبيبة فرح من الفريق الطبي، اهتمت براضي، تعاطفت مع مأساته، تعلم أن كل من يصل ليد الامن يصبح مستباحا، يعذب ويفقد حقه الإنساني وكرامته. اهتمت براضي، داومت على علاجه، وبدأت تخاطره نفسيا، وتدفعه للتجاوب مع العلاج. وفي الختام عاد راضي لوعيه، صحى على وجه الطبيبة فرح، كانت سعيدة بنجاحها، وهو سعيد بملاك الرحمة الذي وجده فوق رأسه لحظة عودة وعيه له. تواطأت الطبيبة فرح مع راضي على أنه مازال في الغيبوبة، استمر ذلك لأيام، أصبح بين راضي وفرح ود إنساني وبدايات حب يولد، أخبرها أنه معتقل رأي وحدثها عن معاناته وتعذيبه. لم يستمر حالهم هذا كثيرا، كشف أحد عناصر الأمن أنه شفي وأن هناك علاقة بينه وبين الطبيبة، أخبر الرائد بذلك. حقد الرائد على الطبيبة فرح، أعاد راضي الى المعتقل والتحقيق والتعذيب وضرورة الاعتراف، وقرر ان ينتقم من الطبيبة على طريقته، خاصة أنهم عرفوا أن لدى راضي أوراق وقلم وقد كتب رسالة لها، وكيف بلعها قبل أن يحصل عليها الرائد ويعرف مضمونها. وقعت فرح ضحية اهتمام الرائد، استدرجها لتكون إحدى عشيقاته. لكن فرح لم تتجاوب، حاول معها بطريقة الترغيب حيث جعلها مسؤولة في قسمها الطبي، ومن ثم رئيسة له. استدرجها جنسيا وكانت ترفضه وتذلّه. استعمل معها الاسلوب الامني، استدعاها الى الفرع للتحقيق، بتهمة التعامل مع راضي، وجعلها تحضر تعذيب بعض الموقوفين، وتسمع اصواتهم، وحضّرها نفسيا للتعذيب، وبدل ذلك اغتصبها في مكتبه، استسلمت له خوفا ورعبا، لم تستطع أن تفعل شيئا، كانت ترفضه نفسيا، لكنها تخاف بطشه. استمر يستدعيها لمكتبه ويمارس معها الجنس مجبرة كلما أحب. أصبحت حياتها جحيما. تطور موقف الرائد من الطبيبة فرح، فقد قرر ان يتزوجها ويحتفظ بها لمتعه كلما أراد وشاء، تزوجها وفرض عليها أن تترك عملها بالمستشفى، واستأجر لها شقة عاشت فيها شبه سجينة تحت المراقبة دوما يأتي إليها كلما أحب.
اما راضي فقد أعيد بعد علاجه الى المعتقل وأعيد التحقيق معه، واضيف للتحقيق البحث عن طبيعة علاقته بالطبيبة فرح. تلقى التعذيب مجددا وبكل الوسائل حتى فقدان الوعي، ويعاد التعذيب ما أن يصحو، وراضي لا يعترف لمحققيه عن أي شيء. وضع في زنزانة انفرادية، شُبح فيها معلقا بيديه و قدماه بالكاد تلامسان الأرض. قاسى الألم، كان ينام وهو مشبوح، طعامه بعض برغل ومرقة ماء البندورة، يُدفع الى المرحاض خارج زنزانته تحت الضرب والإذلال. كان من الخير له وجود سجان تعاطف معه، فقد سرب له بعض السجائر، و فك قيده في بعض الليالي، كان ذلك أكبر هدية له في اعتقاله. استمر التحقيق معه لأشهر، ومن ثم توقف وحول الى غرف جماعية مساحتها ثلاثة أمتار مربعة فيها ما يزيد عن مئة معتقل، كان حصته مساحة ٢٥سم عرض يتمدد فيها، يعيش بين هؤلاء المعتقلين حياة قاسية جدا، تعرّف على المعتقلين الآخرين، ومع الوقت قصوا على بعضهم حكاياهم، وبدؤوا ينظموا العيش المشترك؛ يتحدثون في موضوعات متفرقة، يناقشون كل شيء ينظمون دور المرحاض والحمام والدخان، كميته وشربه وتقاسمه. كانوا يتزاوروا بالانتقال الى جوار بعضهم، حاربوا اعتقالهم بالتفاعل المستمر مع بعضهم، وبعد ذلك تم تحويلهم الى سجن صيدنايا الذي كان قد تم افتتاحه للمساجين السياسيين، استراحوا لتقسيمه واتساع مهاجعه، كان عددهم في كل مهجع أفضل من المعتقل، فقد تغيرت ظروف حياتهم بشكل كبير، أصبحت تأتي لهم الزيارات وحولوا حياتهم داخل السجن الى شكل من الحياة المشتركة التضامنية في كل شيء. طالت فترة سجنهم، كانوا يتكيفون نفسيا من خلال سرد حياتهم السابقة على الاعتقال والسجن. وكان حلمهم الاكبر الخروج من السجن إلى الحرية، خاصة أنهم يجهلون كم سيمتد سجنهم او اعتقالهم. إنهم موقوفون دون أي حقوق أو محاكمات أو فترات سجن. كان يُفرج عن البعض، ويُنقل البعض إلى سجون أخرى، ويعاد البعض للفروع الأمنية. طال سجن راضي حوالي تسع سنوات، عاش فيها على أمل أن يخرج من السجن ليبحث عن الطبيبة فرح التي أعادت له الأمل في الحياة. وأخيرا أُفرج عنه، عاد الى أهله وعائلته، كانت فرحتهم به كبيرة لكنه أحس بالغربة معهم، زاره الكثير يهنئونه بالسلامة، دون الحديث عما حصل معه، هاجس الخوف يسيطر على الجميع. حاول أخاه وزوجته أن يعرفوه على صديقتها لعله يخرج من عزلته وسوداويته ومعاناته، لم يستطع أن يتحرر من سجنه، حدثها عن سجنه وما قاساه، نفرت الفتاة منه، وهو لم ينجذب لها، بقي يفكر بالطبيبة فرح وكيف يصل إليها. حاول العودة ليكمل دراسته الجامعية بعد انقطاع لتسع سنوات، لم يستطع أن يتأقلم مع أجواء الطلاب الذين ظهروا أصغر منه بكثير واهتماماتهم مختلفة، وهو مسجون في شرنقة معاناة سجنه الذي ما زال يسكنه. تعرف على إحدى الفتيات التي اهتمت به، وبعد أن عرفت بقصة سجنه هربت منه، وعاد إلى وحدته وتأزمه من عجزه عن التواصل مع الآخرين. استمر شهورا في الجامعة محاولا أن يتابع دراسته، لكنه اكتشف أن تواصله مع الآخرين مستحيل، والإدارة تعامله بشكل سيئ لكونه معتقل سابق، لذلك غادر الدراسة مطلقا. عاش هاجس البحث عن الطبيبة فرح التي بقيت أمله الوحيد بحب يعيشه وحياة سوية يتجاوز عبرها اعتقاله وسجنه الذي ما زال يعيش داخل نفسه ولم يتحرر منه. أخذ يبحث عنها، سمع أنها انتقلت إلى اللاذقية، ذهب الى هناك وبحث عنها كثيرا لكنه لم يستطع أن يصل إليها. أحرج نفسه مع الكثيرين، فقد داوم على مراقبة بيت قيل إنها تعيش فيه، وتعرف بعد ذلك على العائلة التي تسكن البيت، وسمعت المرأة قصته وتعاطفت معه، لكنه بقي يفتقد فرح ويتمنى لقاءها. عاد إلى دمشق بعد يأس من أن يجدها في اللاذقية عاش مع أخيه وعائلته، لاحظ أخاه همّه ومعاناته فقرر أن يخبره عن قصة فرح وزواجها من الرائد رتيب وأين منزلها أيضا. عاد الأمل إلى قلب وروح راضي، راقب المنزل كثيرا، عرف أنها شبه سجينة وأن هناك مخبر يراقبها من خارج البيت، و خادمة تراقبها من داخل البيت، وأنها أقرب ﻷن تعيش حياة الجحيم مع الرائد رتيب. لم يستطع أن يراها أو يصل إليها، فكّر أنه قد يراه الضابط أو يعرف بملاحقته لفرح، فقد يعتقله مجددا وقد يؤذي فرح حبيبته، لذلك قرر أن يكف عن البحث عنها.
هنا تنتهي الرواية.
في تحليلها نقول:
– نحن أمام رواية عن الاعتقال السياسي، الذي لم يفقد حضوره رغم الكثير مما كتب عنه منذ عقود، فاضحا المعتقلات والسجون السورية والعربية. هذه الروايات التي تتابع بشكل دائم، لأن السجون والمعتقلات ما زالت مستمرة في بلادنا وما زالت تعطي مبررا لمن يعاني ويلاتها أن يوثق ما عاشه، متحررا من التجربة، ولتكون وصمة عار على الأنظمة الاستبدادية المتوحشة، ودعوة للإنتصار لإنسانية الإنسان وحقه بالحرية والكرامة والعدالة والعيش في مجتمع يحترمه ولا يهدره.
– الرواية تقول أنه لا وجود لحل فردي لمشكلة المعتقل السياسي، واسترداد حقوقه وإنسانيته في دول الاستبداد والظلم، لن يستطيع أن يسترد عمره الذي هُدر، وكرامته التي استبيحت، وآماله التي خسرها. لن يتكيف مع حياة أصبحت مستحيلة. الحل ان تسقط السلطات المستبدّة وتبني بلادا حرّة عادلة ديمقراطية دون معتقلين سياسيين وسجون رأي.
– الرواية تغوص عميقا في البعد الوجودي الإنساني لتجربة الاعتقال والسجن، لم تقل لنا ما تهمة المعتقل ولا عقائده، سوى أنه سجين رأي، ولا جرائمه، إن الرواية تؤشر أن الأنظمة المستبدة تهدر حق الإنسان إن كان حرا وأبدى رأيه أو ناضل لتحقيق الحياة الأفضل، وأن الانظمة المستبدة لا تتورع أن تهدر حياة الإنسان نفسه، سواء بالاعتقال أو التعذيب أو السجن، ودون أي محاكمة أو تهمة أو جريمة، وتحول المعتقل لمصدر معلومات، وحياته وموته سيان، يعتقل لسنوات دون أي رادع أو مانع أو تقديم أي عذر أو مبرر، سوى إرادة الانظمة المستبدة الظالمة. تهدر حياتهم وكرامتهم وإنسانيتهم، ودون حساب، يلقى بعدها المعتقلين وسجناء الرأي في حياة تصبح مستحيلة، لا يتحررون من سجنهم، يخاف المجتمع منهم، يخافون من التفاعل مع الناس ويستمرون مسجونين في ذاتهم. قد ينتحر البعض، ويعجز البعض عن التكيف مع المجتمع، ويستمر النظام يطاردهم بعد خروجهم من المعتقل… وهكذا تصبح حياتهم خارج السجن جحيما مستمرا و كأنهم لم يغادرون السجن اصلا.
– الرواية شهادة وإدانة وصرخة إنسانية، تطالب بالعمل الجاد من الشعب لدحر أنظمة الاستبداد، التي تزرع الرعب والخوف في النفوس، ليستكين أصحابها ويستسلموا للظلم والبطش، تستغلهم الأنظمة، تظلمهم تستعبدهم، وتحولهم إلى قطيع يعيش لتلبية رغباتها ومصالحها. الرواية دعوة لانتصار الإنسان وحقوقه، وبناء دول تحترم إنسانها وتحقق مصالحه. دعوة للاعتراف بأن الدولة الديمقراطية هي الضمان لإنسانية الإنسان والمحافظة على حقوقه وكرامته وحريته، وهي وسيلته للحياة الأفضل.
أخيرا نحن بحاجة لكثير من هذه الروايات الشهادات على ما عشناه، وما جاء بعده من ظلم الأنظمة التي لم تتورع عن قتل الشعب وتشريده وتدمير البلاد، من أجل استمرارها واستمرار مصالحها. دعوة لفهم وتفهم ثورة شعبنا السوري عام 2011، واستمرارها لإسقاط نظام الاستبداد ومحاسبته، وبناء الدولة الديمقراطية العادلة.