عمر قدور
الأخبار الواردة من خطوط التماس بين قسد والمناطق الخاضعة لنفوذ أنقرة تحدثت عن تصعيد شديد في القصف التركي بدءاً من يوم السبت الفائت، حيث استهدفت موجة القصف الأخيرة مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأهداف العسكرية والاقتصادية، خاصة ما يتصل باستخراج وتكرير النفط الذي تعتمد عليه بشدة الإدارة الذاتية الكردية. ظهْر الأحد كانت طائرة قائد القوات الروسية في سوريا ألكسندر تشايكو تحط في القامشلي، ليفاوض قائد قوات قسد مظلوم عبدي على الانسحاب 30 كيلومتراً عن الحدود التركية تفادياً لتوغل تركي بري.
حسب صحيفة “الوطن” التابعة للأسد، رفض عبدي العرض الذي قدّمه تشايكو، والذي ينص على نشر الفيلق الخامس في الشريط الحدودي الذي تنسحب منه قسد، وينص أيضاً على “عودة الجهات المختصة السورية ومؤسسات الدولة إلى تلك المناطق بشكل كامل”. أي أن مضمون العرض الروسي يجهز على المنظومة الكردية بشقيها؛ العسكري الذي يُقصى بعمق 30 كيلومتراً، والمدني ممثَّلاً بالإدارة الذاتية التي سيتم تقويضها تحت عنوان “عودة مؤسسات الدولة بشكل كامل”.
يخيّر الاقتراح الروسي قسد بين السيف التركي والمخلب الأسدي، بالاستفادة من تسمية أنقرة لعمليتها العسكرية الحالية بـ”المخلب-السيف”. وتجوز قراءته كاستغلال في حده الأقصى لمأزق قسد الحالي، مثلما تجوز قراءته كاقتراح لا يتوقع أصحابه أن ينال القبول، وهو بهذا المعنى لا يعدو كونه مؤشراً على موافقة موسكو الضمنية على العملية التركية.
الاقتراح الروسي، من حيث الشكل، يستأنف محادثات تتجدد من وقت لآخر بين قسد والأسد، واصطدمت في المرات السابقة برفض قسد الشروط التي تعيدها كلياً إلى هيمنة الأسد وتقوّض مشروع الإدارة الذاتية. الجديد في هذه المرة أن قائد القوات الروسية لم يذهب إلى القامشلي مفاوضاً باسم موسكو أو الأسد فحسب؛ إنه للمفارقة ذهب حاملاً الشروط التي توافق عليها أنقرة.
في الأصل، لا خلاف حسب المتداول حول انسحاب قسد بعمق 30 كيلومتراً، إذ أشيع أن السفير الأمريكي في أنقرة قدَّم العرض ذاته للسفير التركي تفادياً للعملية البرية. العرض الأمريكي أرأف بحال قسد من نظيره الروسي، ويدعم رفضها الأخير لو كانت أنقرة موافقة عليه. إلا أن ترتيب تقديم المقترحين يشي برفض أنقرة الأمريكي وتفضيلها الروسي لاعتبارين؛ الأول ثقتها بحافز موسكو الخاص للالتزام بالتطبيق، وثانيهما أنها تفضّل عودة المؤسسات التابعة للأسد على بقاء الإدارة الذاتية.
في الإطار التفضيلي نفسه، يجوز القول أن العملية العسكرية التركية تستهدف الحليف الأمريكي بقدر ما تستهدف قسد، وأنقرة دأبت على التصريحات التي تصب في منحى معادٍ للوجود الأمريكي، وإن من زاوية التصويب على الدعم الأمريكي لقسد. الردود الأمريكية التي تركز على أهمية التحالف مع قسد لمحاربة داعش هي أيضاً بعيدة عن بؤرة الخلاف الرئيسي أو الصراع الصامت، فأنقرة لا تريد دوراً كبيراً لواشنطن، تستفيد منه قسد، في التسوية المستقبلية حول سوريا.
وما تسعى إليه أنقرة يخالف أحياناً، لا على طول الخط، سياسة البيت الأبيض. كان ترامب أكثر وضوحاً في التعبير عن انتفاء الحاجة لبقاء قواته في سوريا بعد القضاء على داعش، وهو رأي صار يبرز ويتوارى بموجب الحسابات الأمريكية الروسية ليس إلا. في كل الأحوال ليس هناك ما يردع مبدئياً واشنطن عن تقديم تنازلات لأنقرة، لكن ليس إلى الحد الذي يلبي الطموح التركي، وبسبب تلك الحسابات لا يبدو الآن هو الوقت المناسب لمنحها مناطق نفوذ جديدة على حساب قسد.
إن أية منطقة نفوذ جديدة، تقدِّمها واشنطن لأنقرة بخلاف التوقعات، لن تفي بالغرض سوى مؤقتاً لأنها لا تكفي لتحقيق الهدف النهائي التركي، الهدف الذي يصعب تصور إنجازه من دون إنسحاب أمريكي تام من سوريا، وتالياً فقدان ورقة الضغط المباشر الأمريكية. لذا لا يُتوقع أن تتوقف أنقرة عن سعيها لضرب قسد والإدارة الذاتية ما بقيت تجربتهما موجودة، وهو سعي يزداد إصراراً ويكتسب شعبية لدى الجمهور التركي بذرائع من نوع التفجير الأخير في اسطنبول، لكنه يتغذى من سياسة تركية مستدامة.
بدوره، ربْطُ التصعيد التركي الأخير بحسابات أردوغان الانتخابية يبقى صائباً، على ألا نرى في تحقيقه المكسب المتوقع نهايةَ ما يطمح إليه. فمع عدم الاكتراث الذي تبديه واشنطن إزاء الشأن السوري، هناك مساحة لطموح تركي إلى وراثة جزء من مناطق النفوذ الأمريكي الحالية، ومن ثم إلى لعب دور أكبر في التسوية المستقبلية. برحيل القوات الأمريكية، تبقى تركيا اللاعب الذي يجب على موسكو وطهران إرضاؤه في التسوية، وهو أيضاً ما يمنح قيمة أكبر لإمساكها بفصائل المعارضة وائتلافها.
التمهيد لهذا السيناريو بدأ فعلاً بالتواصل المخابراتي بين أنقرة والأسد، وبعدم استبعاد التواصل السياسي بما فيه لقاء أردوغان-الأسد عندما تنضج الظروف بينهما. ومن المرجح بشدة أن المفاوضات بلغت مرحلة متقدمة تجعل أنقرة تتبنى علناً مطلب سيطرة الأسد على مناطق سيطرة قسد الحالية، فهي بهذا التبني تعتبره شريكاً موثوقاً أكثر من “الحليف” الأمريكي، وتمهد لاعتباره شريكاً موثوقاً في تفاهمات لاحقة لا تتعلق بالأكراد وحدهم. على الأرضية ذاتها يأتي الحديث المتجدد عن تفاهمات سوتشي التي مضى عليها أربع سنوات من دون التزام مختلف الأطراف بها، والعودة إليها قد تعطي أنقرة على حساب قسد وفق مقايضة يستفيد منها الأسد على جبهة إدلب.
أمس الاثنين، بمواكبة من الطيران الروسي، وصل رتل عسكري من قوات الأسد إلى كوباني، ليتمركز في نقاط كانت تتمركز فيها قسد. هذا الرتل لن يكون بمثابة دعم للقوات الكردية التي حاول قادتها مؤخراً، وفي مناسبات سابقة مشابهة، استنفارَ حمية الأسد بالقول أنه مسؤول عن حماية الحدود. يدخل جنود الأسد كوباني برغبة تركية، وقد يكون السيناريو المؤقت للحل هجيناً؛ تراجعٌ لقسد عن الحدود تحت المظلة الأمريكية، وخارجها تقاسمٌ بين سيف أنقرة ومخلب الأسد. لاحقاً، سيبقى السيف مسلطاً، والمخلب سيبقى متحفزاً واثقاً من استعادة الطريدة التي أفلتها.
المصدر: المدن