جسر: رأي:
بدأت الأزمة الأفغانية بشكل فعلي في العام 1973، في أعقاب قضاء الأمير “محمد داود” على الملكية، واستيلائه على الحكم، إلا أنه لم يستطع تحقيق الاستقرار والأمن في البلاد، حيث تعاظمت الاضطرابات وزادت حركات التمرد، إلى أن قُتلَ في الانقلاب العسكري في نيسان/أبريل 1978، وأعلن “الحزب الديمقراطي الشعبي اﻷفغاني” في بيان إذاعي أن السلطة قد أصبحت بأيدي المجلس الثوري للقوات المسلحة، وباستيلاء الشيوعيين على الحكم، كخطوة أولى، تأكد التوقعات أن الخطوة التالية ستكون الاحتلال السوفيتي الكامل لأفغانستان.
ففي كانون الأول/يناير من العام نفسه، وقّعت موسكو معاهدة صداقة وتعاون ثنائية مع أفغانستان تسمح لها بالتدخل في حال طلبت أفغانستان ذلك، وازدادت المساعدات العسكرية السوفيتية، وأصبحت حكومة “حفيظ الله أمين” معتمدة أكثر فأكثر على العتاد والمستشارين العسكريين السوفيت، إلا أن العلاقة بين أفغانستان والاتحاد السوفيتي فترت في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1979، عندما تجاهل “حفيظ الله أمين” النصائح السوفيتية بجعل حكومته أكثر استقرارا.
تحرش المقاتلون في المناطق الجبلية بالجيش الأفغاني إلى درجة أن حكومة “حفيظ الله أمين” توجهت إلى الاتحاد السوفيتي بطلب لزيادة حجم الدعم. فقرر الاتحاد السوفيتي تقديم هذا الدعم للحفاظ على الحكومة الموالية له في البلاد، ولكنه شعر بأن “حفيظ الله أمين” كقائد أفغاني ليس قادرا على القيام بهذا الدور.
في 22 كانون الأول/يناير 1979 أشار مستشارو القوات المسلحة الأفغانية السوفيت بالعمل على صيانة الدبابات وأشكال أخرى من العتاد المهم، وفي تلك الأثناء انقطعت شبكة الاتصالات لتعزل العاصمة كابول عن بقية أنحاء البلاد. وفي ظل وضع أمنى متدهور، انضمت أعداد كبيرة من القوات السوفيتية المجوقلة للقوات المتمركزة على الأرض، وبدأت بالانتشار في أرجاء العاصمة. في ذات الوقت نقل “أمين” مكاتب الرئاسة إلى “قصر تاجبك”، معتقدا أن ذلك سيكون أكثر أمنا في مواجهة المخاطر المحتملة.
بعد خمسة أيام، وفي 27 كانون الأول/يناير، قام 700 مقاتل بينهم 54 عميل “كي جي بي” من القوات الخاصة يرتدون اللباس الأفغاني الموحد باحتلال الأبنية الحكومية والعسكرية والإذاعية الرئيسية في العاصمة كابول، بما فيها هدفهم الرئيسي “قصر تاجيك” الرئاسي، حيث تخلصوا من الرئيس “حفيظ الله أمين”.
بدأت تلك العملية الساعة السابعة مساء، عندما قام أفراد القوات الخاصة السوفيتية بتفجير مقسم الاتصالات الرئيسي في كابول شالين بذلك القيادة العسكرية الأفغانية، وفي الساعة السابعة والربع، بدأت المعركة في “قصر تاجبك” واستمرت مدة 45 دقيقة، أعلنت القيادة العسكرية على إثرها تحرير أفغانستان من حكم “حفيظ الله أمين”.
ووفقا لتصريحاتهم الرسمية في ذلك الحين؛ زعم السوفيت أنهم يطبقون معاهدة الصداقة والتعاون وحسن الجوار المبرمة بين البلدين في العام 1978، والتي وقعها الرئيس السابق “تاراكي”، واعتقد السوفيت بأن إزاحة “أمين” ستنهي الصراع الداخلي ضمن “الحزب الديمقراطي الشعبي الأفغاني”، مما يُقلص من السخط الأفغاني العام.
قال السوفيت إن إعدام “حفيظ الله أمين” تم على يد اللجنة الثورية المركزية الأفغانية التي اختارت، بتدبير من السوفيت، النائب السابق لرئيس الحكومة “بابراك كارمال” بديلا عنه، ودخلت القوات الأرضية العسكرية أفغانستان من الشمال في 27 كانون أول/يناير، وفي الصباح كان الاجتياح السوفيتي لأفغانستان جارٍ على قدم وساق.
بشكل عام، رفض “بريجينيف” 18 طلبا رسميا للمساعدة العسكرية من الحكومة الأفغانية قبل نوجيه الأمر بالتدخل السوفيتي الفعلي في أفغانستان، وبشكل قانوني لم تكن العملية احتلالا، وادعى الاتحاد السوفيتي أن التسمية كانت نتيجة للدعاية الأمريكية المضادة.
وتؤكد الوقائع والأحداث في سوريا، أن روسيا بدأت مستوى جديدا من دعم نظام اﻷسد، و بناءا على هذا وكل ما سبق خلال سنوات تدخلها، كسبت روسيا عداوة الشعب السوري، وباتت بالنسبة للملايين شريكا للنظام وطرفا عدوا، وبغض النظر عن مواقف الدول العربية من روسيا كدولة، إلا أنها دون شك خسرت بسياستها المتحيزة تجاه الثورة السورية ثقة عموم العرب، وهي في طريقها لخسارة أي مستقبل مقبول لها في المنطقة.
وبدخول أول جندي روسي بسلاحه إلى سوريا ليقتل أول سوري، باتت روسيا خطرا على الشعب السوري، وباتت من وجهة نظر السوريين قوة احتلال أجنبية اجتاحت بلادهم لحماية النظام المجرم وإطالة عمره ليس إلا، ثم أن مستوى الدعم الذي قدمته للنظام دون الوصول إلى الأهداف التي رسمتها، هو دليل على أن نظام الأسد بلغ نقطة اﻻنكسار التي تسبق السقوط المدوي.
للتاريخ دروس وعبر، فحينما دخلت القوات السوفيتية إلى كابول في ٢٤ كانون الأول ١٩٧٩ لإنقاذ النظام، الذي لم يكن يسيطر سوى على المدن وعلى 20% من إجمالي مساحة أفغانستان، كان أول ما قامت به هو إعدام الرئيس الموالي لها “حفيظ الله أمين” واستبداله “بابراك كارمال” الذي أعدمه السوفييت أنفسهم لاحقا.
ما يحدث في دمشق، في هذه الأيام الحاسمة، هو محاولة روسية يائسة للحيلولة دون سقوط بشار الأسد في ظل الموقف الدولي الصارم، والذي تقوده الولايات المتحدة اﻷمريكية، من نظامه.
هل سيختلف مصير بشّار الأسد عن مصير ”حفيظ الله أمين”، ومن سيكون ”بابراك كارمال” السوري؟ وإذا سلمنا أن حرب أفغانستان أسقطت الاتحاد السوفيتي بكل جبروته، فهل تَسقط إمبراطوريتي خامنئي وبوتين في الوحول السورية؟ مع العلم أن الهزيمة المنكرة التي مني بها الاتحاد السوفيتي على يد الأفغان، راسخة في ذاكرة كثير من الروس حتى وقتنا الراهن؛ وهو ما تجلى بوضوح في تردد موسكو إزاء التورط في أفغانستان مرة أخرى، حتى بعد هجمات 11 أيلول، حيث رفضت روسيا، وما زالت ترفض، وضع قدمها في أفغانستان مرة أخرى.
وفي المقابل يدرك الروس أن التدخل العسكري خارج حدود بلادهم، ولا سيما في المنطقة العربية، له تبعات كبيرة جدا، ليس أولها تكرار السقوط في مستنقع أشد شراسة من أفغانستان، ولن يكون آخرها التفريط بحجم كبير من المصالح الاقتصادية المتبادلة مع الدول العربية والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، وهي التي بدأت حربا ضد الروس من نوع آخر من خلال زيادة إنتاج النفط وخفض أسعاره، لتضيف لأزمات موسكو المزمنة أزمة جديدة.
ويدرك الروس أيضا، أن أي تدخل عسكري مباشر في سوريا سيحولهم إلى قوة احتلال أجنبية، تتحد على مقاومتها جميع مكونات الشعب السوري، ويدركون جيدا أن إيران التي زجت بكل قواها ابتداء من “حزب الله” وصولا إلى “كتائب أبو الفضل العباس” و”عصائب أهل الحق” وبقية الميليشيات الطائفية، لم تستطع الحيلولة دون تقهقر الأسد وخساراته المستمرة والمتجددة. وبعد أن دفع الروس ثمن التدخل في أفغانستان، حيث خرجوا منها مهزومين منكسي الرؤوس مما أدى إلى انهيار الاتحاد السوفيتي لاحقا، فما الذي يمنع أن يتكرر ذلك في سوريا مع الاتحاد الروسي؟ فبشار اﻷسد ليس بحال أفضل مما كان عليه “حفيظ الله أمين”، وسوريا ليست أقل من أفغانستان.