جسر: ترجمة:
فرض فيروس كورونا إيقاعه على دول العالم وشعوبها، وصار العنوان العريض لكل حدث يومي، فقد دخل حياة سكان الكوكب من أوسع الأبواب، وفرض عزلة وإقامة جبرية على هذه الجغرافية الشاسعة، وترك آثاراً عميقة قد يظل مفعولها سارياً لسنين طويلة قادمة.
في الوقت ذاته تتسابق الحكومات لوقف انتشاره السريع، الذي ترك حتى الآن آلاف الضحايا، وتجاوز عدد المصابين به حاجز المليون ضحية.
وعلى الرغم من الإمكانيات الكبيرة التي تمتلكها الدول اقتصادياً ومالياً، إلا إنها وقفت متخبطة عاجزة أمامه، وهو الذي ضرب كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعمق.
فكيف غيَّر الفيروس العالم، وكيف سيكون العالم بعده، من جوانب كثيرة، اقتصادية وسياسية واجتماعية؟
الصحافة الألمانية كغيرها من صحف الكوكب اهتمت بالموضوع بطريقتها، فكيف تناولت بعض الصحف والمواقع الألمانية ذلك الجانب؟ صحيفة (دير شبيغل) واسعة الانتشار، تناولت المسألة “من جانب الانتشار البطيء للفيروس ومدى تأثره”. تقول “بكونها- جائحة كورونا- تترك آثاراً بطيئة، فإنها تكون أكثر خطورة، خاصة أن الاقتصاد مرتبط بنظام المنفعة والمردود المادي” مستشهدة بقول لأوسكار وايلد يقول فيه “الاقتصاديون يعرفون سعر كل شيء، لكنهم لا يعرفون قيمة كل شيء”.
وترى أنه “يختلف انهيار الاقتصاد الناتج عن كورونا في الاقتصادات الكبرى عن الركود الاقتصادي الذي حصل في الماضي، هذه المرة، البنوك والمضاربين أو أسواق العقارات المحمومة لا تنحدر فجأة إلى الهاوية بل ببطء، فقد أوقفت العديد من الدول الصناعية مثل ألمانيا محركاتها بنفسها، لأنها تريد منع وقوع مصيبة أخرى : مئات الآلاف من الضحايا، وربما الملايين”.
تجيب الصحيفة قائلة “في الأزمات العالمية السابقة، مثل الأزمة المالية لعام 2008 ووباء “الإيبولا” في عام 2014، برزت الولايات المتحدة كرائدة عالمية، لكن الحكومة الأمريكية الحالية ترفض هذا الدور الآن”.
لقد أوضحت تماماً أنها تفكر في نفسها، أكثر بكثير من التفكير في مستقبل البشرية، وهذه الحكومة تخلت عن أقرب حلفائها، فعندما حظرت جميع إجراءات السفر من الاتحاد الأوروبي، لم ترَ أنه من الضروري إبلاغ الاتحاد الأوروبي بشكل مسبق، ناهيك عن تنسيق هذا الإجراء الجذري مع الاتحاد الأوروبي.
وأذهلت ألمانيا الشائعات القائلة: بأن الحكومة الأمريكية كانت تحاول خداع شركة أدوية ألمانية لبيع الأمريكيين ” احتكاراً” لقاح Covid 19 الجديد. ولكن حتى لو غيَّرت الحكومة الأمريكية من حين لآخر مسارها، وخرجت بخطة عمل عالمية، فإن القلة من البشر أو الحكومات سوف يتبعون زعيماً مثل ترامب، لا يعترف أبداً بالأخطاء، ويدعي دائماُ أنه الأفضل، مثنياً فقط على نفسه، ومحملاً الآخرين العواقب.
وإذا لم تقفز الدول الأخرى إلى الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة، فإن هذا لن يعقد معركتنا ضد الفيروس فحسب، بل سيسمم العلاقات الدولية لسنوات قادمة. لكن كل أزمة هي أيضا فرصة.، ونأمل أن تدرك الإنسانية خطر الخلاف العالمي في الأزمة الحادة.
وتضيف الصحيفة: على الإنسانية أن تتخذ القرار! هل نسير في طريق الخلاف أم نختار طريق التضامن العالمي؟ إذا اخترنا الخلاف، فلن نطيل هذه الأزمة فحسب، بل ربما نتسبب في كوارث أكثر فظاعة في المستقبل، ولكن إذا اخترنا التضامن العالمي، فلن يفوز فقط ضد الفيروس، ولكن ضد جميع الأوبئة والأزمات التي يمكن أن تؤثر على البشرية في القرن الحادي والعشرين.
أما صحيفة” تاغس شاو”، فقد تحدثت عن خطة اقترحتها رئيسة المفوضية الأوروبية لإنقاذ الاقتصاديات الأوربية، تقول الصحيفة وتحت عنوان:”خطة مارشال لأوروبا”.
نوقشت التدابير التي تهدف إلى التخفيف من الآثار الاقتصادية لأزمة كورونا على المستوى الأوروبي لفترة طويلة.
كتب رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي ، “فون دير لين”، في رسالة لـ “Welt am Sonntag” “نحن بحاجة إلى خطة مارشال لأوروبا”، وبقيامها بذلك أشارت مرة أخرى إلى برنامج المساعدة الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات التي عادت بها أوروبا الغربية ووقفت على أقدامها اقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي مستهل تلك الرسالة، تابعت قائلة “هناك حاجة إلى استثمارات ضخمة من قبل الدول الأعضاء في ميزانية الاتحاد الأوروبي. تم قبول هذا في جميع أنحاء أوروبا كأداة لتعويض التضامن، ويجب أن يكون مفصلاً للأزمة”.
وأعربت “فون دير لين” عن تفائلها بأن تتعافى أوروبا اقتصادياً إن “المليارات الكثيرة التي يجب استثمارها اليوم لتجنب كارثة كبرى ستربط الأجيال القادمة”.
أما صحيفة “فراي تاغ” وتحت عنوان “يتم الآن التفاوض على العالم بعد كورونا”، فترى أن فرض حالة الطوارئ أعاد الديمقراطيات الى نقطة الصفر وقضى على النظم الليبرالية والحريات الشخصية لصالح الصحة. حيث تقول الصحيفة “طالما ضرب الوباء العالمي والأزمة الاقتصادية العالمية والاضطرابات السياسية الفقراء والمحرومين بشدة، وخاصة في البلدان التي تعاني نظمها الصحية – وهي الأماكن العديدة التي كانت فيها حالة الطوارئ بالفعل “القاعدة” للمضطهدين-. لكن على سبيل المثال، في أوروبا، حالة الطوارئ- بهذه الشدة- هي تجربة جديدة، في هذه اللحظة، وصلت الديمقراطية وسيادة القانون إلى نقطة الصفر. فهل علينا الترحيب بالعديد من إجراءات الدولة من منظور السياسة الصحية, والخضوع لمنطقها؟
ففي حالة الطوارئ، وبهذه الحال يكون الأمر، “تنازل عن الحق ، ليحدث الامتياز”، إننا نشهد تقليصاً سريعاً للحقوق الأساسية والمدنية وحقوق الإنسان التي لا يمكن تصورها بهذه الطريقة في الديمقراطيات الليبرالية متسايرة مع خط الأزمة، كل هذا له ما يبرره بالحماية من العدوى والسيطرة على الأمراض، ويمكن أن يكون لهذا المنطق عواقب وخيمة.
في ألمانيا هناك جدل حول تطبيق قوانين الطوارئ، وهي عملية يصعب استردادها. يمكن للرؤساء الذين أضعفتهم الحركات الاجتماعية مثل إيمانويل ماكرون في فرنسا، وسيباستيان بينيرا في تشيلي أو الحكومة اللبنانية أن يعالجوا الوباء سياسياً.
ومع حالة الطوارئ والمراسيم ، يمكنهم تعزيز سلطتهم السياسية باسم الصحة والأمة، وهي آلية تشبه آثار الحرب، وكما هو الحال في فرنسا، يتم تقديمها أحياناً في خطابها.
هذا لا يعني صراحة أن التدابير الحكومية تسعى لتحقيق هذا الهدف أو أنها مطلوبة لأسباب صحية، ومع ذلك فإن لها عواقب قاتلة غير مقصودة.
كما ركزت الصحيفة على العواقب التي ترافقت مع اجراءات الحكومات المشددة في ظل انتشار الفيروس، مثل حقوق العمال، والمرضى، والأنشطة المهنية والاجتماعية الهامة حيث قالت الصحيفة “من المهم أن نرى، أنه تم بالفعل اتخاذ تدابير تؤثر على بيئة العمل والأعمال: ساعات عمل طويلة وأكثر صرامة، خاصة بالنسبة للعاملين في القطاع الصحي، وفي المتاجر التي توفر احتياجات الناس الأساسية.
من جانب آخر ترى الصحيفة أن إغلاق الحدود بين الدولة وفرض العزلة ليس إلا تعزيز للقومية (إغلاق الحدود وفرض قيود التنقل بسبب الوباء، وإعادة عشرات الآلاف من المواطنين من جميع أنحاء العالم، هذه هي القومية، فإذا كان تقييد الحركة الحرة للأشخاص يبدو معقولاً تماماً في ضوء أزمة كورونا، فإن منطق حالة الطوارئ يغلق مجالات العمل الديمقراطية والمواقف القانونية والدستورية ).
وتطرح الصحيفة قضية مهمة، تتعلق بالبنية الاجتماعية والصحية للمجتمع، وهذه الأزمة هي فرصة لإعادة تقييمها وتصحيحها، حيث تقول “يجب أن يتم تحديد المسار في بداية الأزمة الاقتصادية، وتطوير البنية التحتية الاجتماعية، وصحة حقوق الإنسان والنهوض بالديمقراطية، فمن الممكن أن تصبح حالة الطوارئ هي القاعدة بسرعة، وفي الوقت نفسه، فإن التدخل السياسي ليس فقط خطراً استبدادياً، ولكنه يحمل أيضاً ميزات التمكين السياسي ضد الحكم “النيوليبرالي”.
لكن من المسلم به على أعلى مستوى أن المنطق والسياسات “النيوليبرالية” لا تقدم حلولاً لمشاكل إنسانية خطيرة، وإذا فكرت بعض الحكومات في تأميم الشركات والمستشفيات الآن، فقد يستمر هذا في المستقبل ويفتح خيارات للسيطرة السياسية، من ناحية أخرى، فقد أظهرت، ما بعد أزمة 2007 أن كل شيء يمكن أن يتغير بشكل مختلف تماماً، مثلاً قامت إدارة أوباما أيضاً بتأميم شركة “جنرال موتورز” فقط لتمرير التكاليف إلى العمال لاحقًا.
أما صحيفة “فيلت” الشهيرة فقد تحدثت عن التغيّرات البيئية والمناخية وأشياء تحدث لأول مرة “في البندقية المدينة الإيطالية، مثلاً، تفاجأ سكان المدينة الشاطئية التاريخية من نوافذهم برؤية المياه الصافية في القنوات بعد بضعة أيام من حظر التجول، حتى الأسماك الصغيرة يمكن رؤيتها، فالمياه صارت أنظف وأصفى تزامناً مع توقف النشاط البشري.
ومن ناحية أخرى أظهرت صور الأقمار الصناعية من وكالة ناسا أن تلوث الهواء في الصين، قد انخفض بشكل كبير منذ بدء الإجراءات ضد انتشار الفيروس, وذلك لأن الإنتاج قد توقف، واضطرت المصانع إلى الإغلاق، تزامناً مع وجود عدد أقل من السيارات والمركبات والبشر.
ووفقاً لتقدير صادر عن “المركز الفنلندي” لأبحاث الطاقة والهواء النقي، فقد انخفضت انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري في البلاد بمقدار 200 مليون طن بنسبة 25بالمئة، في أوروبا وأمريكا.
موقع “رايش لوند بارتنر” تناول أزمة كورونا من جانب آخر، حيث قال “في الوقت الحالي، السؤال هو” متى سينتهي كورونا ويعود كل شيء إلى طبيعته”. أما الجواب “هناك لحظات تاريخية عندما يتغير الاتجاه نحو المستقبل، فإن الأمور لا تعود كما كانت”، تسميها الصحيفة “التشعبات” أو “أزمات عميقة”.
وهي مايحدث الآن، في زمن كورونا، وتتابع “سوف نفاجأ بأن التنازلات الاجتماعية، التي كنا نادراً ما نقوم بها في الأمس وتؤدي بنا إلى الوحدة، فليس من الضروري ان يكون لها تأثيرات سلبية، وهي لا تعني التنازل بالضرورة أو الخسارة، مثل، مسألة ” الحجر الصحي”.
بل على العكس فإن ذلك يمكن أن يفتح إمكانيات جديدة. وقد اختبر البعض ذلك بالفعل ، على سبيل المثال، المسافة المادية التي “أجبرها” الفيروس على خلق تقارب جديد.
ومثال آخر، لقد التقينا بأشخاص لم نكن لنلتقي بهم أبدًا، وبسبب العزلة اتصلنا بالأصدقاء القدامى في هذه الأوقات، وصار للمرء وقت ليحل مشاكل خفية وقديمة مع جيرانه أو معارفه.
وتتابع الكاتبة “سنكون مندهشين من مدى سرعة ثبوت التقنيات الثقافية الرقمية فجأة في الممارسة العملية، مثل، عقد المؤتمرات عن بعد، ومؤتمرات الفيديو، كذلك تعلم المعلمون الكثير عن التدريس عبر الإنترنت، كما أنتج الفيروس ثقافة جديدة للمكالمات الهاتفية الطويلة بدون شاشة ثانية”.
وتضيف “وفجأة أخذت “الرسائل” معنى جديداً، كما أننا مندهشون لمقدار الفكاهة التي ظهرت وترافقت مع انتشار الفيروس، أيضاً، الأشخاص الذين لم يستريحوا أبداً بسبب ضغط العمل أو الدراسة، ولم يكن لهم الوقت الكافي لذلك، بما في ذلك الشباب، ذهبوا فجأة للمشي لمسافات طويلة (وهي كلمة كانت في السابق كلمة أجنبية بعيدة عن قاموس حياتنا)، كما أصبحت قراءة الكتب فجأة عبادة.
لقد أدى ذلك إلى تغيير العلاقة بين التكنولوجيا والثقافة، قبل الأزمة، بدت التكنولوجيا وكأنها الدواء الشافي، لكن ومع ذلك فإن عدداً قليلاً من الأشخاص، من أهل الاختصاص، لا يزال يؤمن بالفضاء الرقمي الرائع اليوم.
تختم الكاتبة قائلة “الضجيج التكنولوجي الكبير قد انتهى، اليوم نحن نوجه انتباهنا إلى الأسئلة الإنسانية: ما هو الإنسان؟ ما نحن لبعضنا البعض؟”.