عبد الناصر العايد
يرفع المحتجون في ساحات السويداء، شعارات واضحة مناوئة للوجود الإيراني في سوريا. ويؤكد نشطاء الساحل الذين علت أصواتهم مؤخراً عبر التسجيلات المصورة والكتابة والتحركات على الأرض، على مناهضة التحالف القائم بين النظام وإيران تحديداً. فهل يمكن أن يؤثر هذا الضغط الشعبي في الوجود الإيراني في سوريا، سواء العسكري المجسد بالمليشيات أو النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟
ما تنبيء به المواقف المعلنة والمنشورة لنشطاء الحراك الجديد في السويداء والساحل السوري، هو ان الانفصال الاجتماعي ما بين إيران والمجتمعات المحلية في هذه المناطق، واقع عجزت إيران عن اختراقه، وهي لم يكن لها حضور في كلا الموضعين. ومع تصاعد تدخلها في الشأن السوري، زادت القطيعة وتعددت أسبابها، لكن يبقى على رأسها تلك الشهية الإيرانية المفتوحة لابتلاع الجميع وإلحاقهم بها. وهي حاولت اللعب على جزئية الحفاظ على نظام الأسد ككل، بما يوحي بحفظ مصالح وامتيازات الطائفة بالنسبة للعلويين، وجزئية الحماية من “داعش” أو المتطرفين السنّة بالنسبة للدروز.
لكن الورقتين فقدتا بريقهما وجاذبيتهما بعدما تأكد لسكّان الساحل أن بقاء نظام الأسد هو الكارثة بعينها بالنسبة لهم، وليست مغنماً لهم، بل لإيران وللمحظيين من أبناء الطائفة الذين يتنعمون بالسلطة والمال. بينما اكتشف سكان السويداء أن “داعش” هو الفزاعة التي يُراد، عبر تخويفهم منها، إدخالهم في حظيرة الأسد.
ما يلوح في الأفق هو إدراك كلا الجماعتين بأن دعاوى إيران ما هي الا ذرائع وغطاء لعملية الهيمنة والإخضاع المطلق، وتجيير خبيث وخطير لمسألة الأقليات، خدمةً لمصالحها الاستراتيجية، وبالتالي قد يؤدي الحراك الحالي إلى تظهير هذه الصورة بشكل أوضح. لكن هناك خشية ايضاً من أن يوكل النظام للمليشيات الإيرانية عملية قمع المحتجين، خصوصاً في السويداء، واحتلال المنطقة وتحويلها إلى مستوطنة إيرانية، كما حدث في حمص ودير الزور وحلب.
أما على الصعيد العسكري، فيجب أن نتوقع توتراً بين المليشيات الإيرانية في الجنوب، وبين السكان المحليين وقواهم العسكرية. ومع عدم اعتقادنا بأن الأمور في السويداء ستتطور الى حالة عسكرية شاملة، إلا أن مناكفة الإيرانيين محتملة.
وقد نشهد محاولات لإيجاد صيغة إقليمية لقطع خطوط تهريب الكبتاغون بأسلوب حرب العصابات التي قد تتطور إلى إغلاق الحدود الأردنية من التنف الى درعا مروراً بالسويداء. أما في الساحل، فإن النظام قد يلجأ الى تخفيف الظهور الإيراني هناك، لعدم استفزاز السكان، وتشير معلومات متداولة إلى وجود مقرات للمليشيات الإيرانية في مناطق متعددة بطرطوس وقرب القرداحة، منها أماكن للتصنيع العسكري وقواعد للصواريخ بعيدة المدى، وهذه كلها مخابئ ستكون عرضة للانكشاف والضرب لاحقاً.
أما من الناحية الاقتصادية، فإن المحتجين يحمّلون إيران تحديداً مسؤولية ما آلت اليه ظروفهم المعيشية، سواء من خلال نهبها لمواردهم بعقود طويلة الأمد مقابل خدماتها للنظام، أو لإحجامها عن نجدتهم في هذه الظروف القاسية. ويكمن خلف هذا الخطاب، وعي عميق لاستراتيجية التجويع الإيرانية التي تسعى الى تحطيم مقاومة واستقلالية المجتمعات المحلية، وانتزاع أقصى التنازلات منها، في ظل صمت وتواطؤ من طرف قيادة النظام التي لم تعد تهتم لاحتياجات ومشاعر المناطق المنتفضة.
لكن بعيداً من تلك المناطق، تلوّح إيران اليوم بفتح معركة في شرق سوريا، لاستعادة “النفط والقمح”، وهي ربما تحاول بذلك استعادة مصداقيتها وزج المجتمعات المنتفضة في سياق حرب يطغى ضجيجها على كافة الأصوات المطلبية وما يكمن خلفها من مشاعر استياء. لكنها أيضاً يمكن أن تعمد إلى مد النظام ببعض المنح الاقتصادية، لتجاوز أزمته وتحسين صورتها لدى السكان، لكن أعطياتها ستكون بالتأكيد محدودة ومؤقتة بأثر من الضائقة الاقتصادية التي تعانيها طهران بسبب العقوبات.
ما من شك في إن قيادة الحرس الثوري الإيراني تراقب الاحتجاجات الحالية بقلق شديد، وتُعدّ خططها للتعامل معها. فالجماعات البشرية في الجنوب والساحل، والتي ظنت طهران أنها حيّدتها كلياً من الصراع على سوريا وصارت في الجيب الإيراني، تحولت فجأة الى رأس حربة في مواجهة مشروعها الامبراطوري. وهذا سيخلخل سيطرتها، القلقة أساساً، على المناطق السورية الأخرى في الشمال والغرب والشرق وحول دمشق، وعليها أن تعدّ حساباتها بشكل دقيق. فأي عمل متهور أو أرعن قد ينقلب بالفعل إلى صراع إقليمي ودولي جديد، ستخوضه إيران وحلفاؤها في سوريا مع فقدان أهم عناصر البروباغندا التي لعبت عليه سابقاً، وهو حماية الأقليات.
المصدر: المدن