حسام جزماتي
صباح الخميس الماضي فوجئ المتابعون بانتشار نعي محمد، الابن الأكبر للعماد علي دوبا المتقاعد عن رئاسة شعبة المخابرات العسكرية التي أخذت سمعتها المرعبة في عهده طوال الثمانينيات والتسعينيات.
سبب المفاجأة هو أن العائلة أشاعت، منذ اختفاء محمد في مطلع أيار 2012، أنه مخطوف. ولم يكن هذا مثيراً للاستغراب بالنظر إلى أن سيرة المفقود ارتبطت دوماً بأعمال وشراكات واحتكاكات بشخصيات نافذة وأحياناً برؤساء عصابات.
غير أن السؤال كبُر عبر السنين عن عجز علي دوبا عن العثور على ابنه، وهو الذي كان ثاني أقوى رجل في سوريا، لكن الأمر أخذ يحتل مكانه المنسيّ بالتدريج ضمن ألغاز “الحرب” المتكاثرة. في حين ظهرت أصوات، هنا وهناك، تقول إن محمد معتقل في سجن سري بأوامر عليا مشددة، نتيجة سبب مستحق غامض.
وهو ما أثبته إعلان وفاته ووصول جثته إلى قريته “قرفيص”، وأحال عليه الاختلاف بين ورقتي نعيه المطبوعتين بفارق ساعات. ففي حين تقول الأولى إن التعزية أثناء الدفن وعبر وسائل التواصل الاجتماعي أو بالاتصال هاتفياً؛ أعلنت الثانية عن تقبّل التعازي لثلاثة أيام في الصالة المخصصة لذلك في القرية. ولأن هذا هو الفارق الوحيد بين الورقتين تشجّع الكثيرون على افتراض أن العائلة لم تستطع تقبل التعزية بابنها دون الحصول على إذن بذلك من الجهة التي سبق وأن عاقبته.
منذ شب عن الطوق كان محمد مصدر متاعب لوالده. وذلك بالضبط لأنه كان يتصرف على أنه “ابن علي دوبا”، الاسم المرهب في أوساط كبار المسؤولين أنفسهم فضلاً عن عامة الناس. لكن رئيس شعبة المخابرات، الذي لم يكن هناك مدى لسلطته سوى حدود حمى حافظ الأسد ومن يلوذ به فقط، كان يريد من ابنه أن لا يرث هذا القدر من استباحة البلاد وانتهاك العباد والاستخفاف بالقانون، مما كان يسبب للأب إحراجات متكرّرة أمام رئيسه الأوحد، ويضيف إلى أعبائه الكثيرة مهمة حل المشكلات المتواترة الهوجاء التي يرتكبها محمد مع هذا أو ذاك من أقرانه الأقوياء. إذ كان ينتمي إلى الطبقة الأولى من أبناء رجال الحكم، زميلاً لباسل الأسد في المدرسة ثم صديقاً له في كلية الهندسة المدنية. كما تدل على ذلك صورة تُظهره، بين رامي مخلوف وماهر وبشار الأسد في عزاء باسل سنة 1994.
في العام التالي مرّ محمد بأغرب خلافاته مع أبيه. ففي نادي النخبة هذا وقع في غرام صبية ذات جمال لافت وقرّر الارتباط بها، لكن ردة فعل والده كانت الرفض بطريقة بالغة الشدة. ولم يكن هذا منطقياً بالنظر إلى أن الشابة ابنة عائلة مقربة وموثوقة، وتحمل شهادة جامعية معتبرة.
ولم يكن هناك سبب مفهوم للطريقة التي تصرف بها الأب الذي استخدم كل إمكاناته لمنع هذا التقارب. فمن ناحية أولى مارس أقصى درجات الضغط على ابنه، وهو الذي كان يسجنه أحياناً في زنازين ضمن صلاحياته، لتأديبه أو لمنعه عن تعاطي المخدرات. ومن جهة أخرى خصص دورية لمراقبة البنت لئلا تلتقي بابنه، ودورية ثانية لمضايقة أبيها، ترافقه منذ خروجه من المنزل وحتى وصوله إلى عمله، وتنتظر عودته لتقوم بالأمر نفسه، وبطريقة مقصودة علنية.
ورغم أن الأب ينتمي إلى الحاشية لم تستطع علاقاته إيقاف الإزعاجات التي استمرت لعدة أشهر وألجأته إلى الإقامة في مقر عمله لأيام طويلة تجنباً لأي احتكاك مع رجال خصمه القوي الذي استطاع وأد مشروع الزواج أخيراً فتراجع عن شراسته. وأخذ البعض يهمسون عن أن السبب هو علاقة سابقة ربطت دوبا بأم الصبية، دفعته إلى الشك بأنها ربما تكون ابنة غير شرعية له، وهو ما قيل إن سمر يزبك استلهمته في روايتها “صلصال” حين وصفت ردة الفعل العنيفة لضابط واسع النفوذ على الحب الذي جمع ولده بابنة عشيقته، فحطّمه مستخدماً كل سلطاته.
في سياق مواز بادر علي دوبا إلى تزويج محمد بابنة اللواء علي الصالح، الذي كان قائداً للدفاع الجوي وأحد أركان الحكم في وقته. لكن البكر المخيِّب، وبعد أن أنجب علياً الصغير وبضع شقيقات لهن من ابنة اللواء، عاد إلى خذلان أبيه حين تزوج، سراً في البداية، صبية من عائلة مغمورة من طائفة شقيقة ورزق منها بطفلين سيفرضان وجودهما في النسخة الثالثة والأخيرة من النعوة التي ستضطر إلى استخدام لفظ أولاده حين تضيف حيدرة، وزوجاته حين تذكر اسم المرأة الجديدة التي كان محمد قد اختفى من منزله معها قبل نحو عشر سنوات.
في تفسير هذا الوضع الغريب يستبعد مطلعون أن يكون لاختفاء محمد صلة بأي قضية جنائية كان يمكن أن تُحلّ بسرعة. في حين ينقل آخرون أنه كان في إقامة جبرية في فيلا بقرى الأسد، ضاحية دمشق الآمنة، عقاباً له على أحاديث انتقد بها طريقة إدارة “الأزمة”، وقال فيها إن ابنَي الأسد يقودان الطائفة إلى الخراب.
وإذا كان من المستبعد أن تؤدي “ثرثرة” كتلك إلى احتجاز طويل وصارم كهذا، لا سيما أنها صدرت عن شخص لا يشغل منصباً ولا يحوز نفوذاً واسعاً ولا تهم مواقفه السياسية؛ فإن الخطر قد يكون مما يُحسب حسابه إذا كان كلام الابن معبّراً عن رأي الأب الذي لا نعرف عن موقفه العام بعد الثورة سوى حادثتين؛ الأولى في 2011 عندما اجتمع عدد من كبار رجال الحرس القديم، بينهم علي دوبا، لتناول الغداء في منزل وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، واتفقوا على أن طريقة إدارة بشار الأسد للوضع تهدّد النظام والبلاد، وكلفوا طلاس بنقل النصيحة لبشار الذي رفض تلقيها.
أما الموقف الثاني، بعد عقد من الزمن، فهو المشاركة المفاجئة لدوبا، عجوزاً طاعناً في الثامنة والثمانين، في التصويت للأسد في الانتخابات الرئاسية لعام 2021، وكأنه يريد أن يبعث برسالة.
غير أن هذا يبقى في إطار التحليلات المبنية على معطيات ناقصة، بانتظار انجلاء الصورة في يوم ما.
المصدر: تلفزيون سوريا