عمر قدور
في آذار2012 حذّر لافروف وزير الخارجية الروسي من إسقاط الأسد وإقامة نظام سُني في سوريا، معبِّراً عن قلقه على مصير المسيحيين والعلويين والدروز والأكراد. ذلك كان التصريح الأكثر فظاظة، ونُظر إليه على نطاق واسع كترجمة على الطريقة الروسية لتصريحات غربية أبدت القلق على مصير “الأقليات” منذ مستهل الثورة، وحين لم يكن من وجود سوى لرصاص شبيحة الأسد الذي يقتل أبناء “الأكثرية السنية”.
سيكون سهلاً، بناء على الكثير من معطيات السنوات اللاحقة، القول بوجود مؤامرة كونية على السُنة من أجل منعهم من استلام السلطة “التي ستؤول إليهم حتماً لأسباب عددية”. وفكرة المؤامرة، التي لا يقتصر الإيمان بها على الإسلاميين، ملائمة تماماً للجرح النرجسي السني، إذ يرى أصحابه أنفسهم الأكثرية الأقوى، والقادرة على هزيمة مغتصبي السلطة لو لم تكن المعركة ضد جحافل الغرب والشرق. بل سيذهب بعضهم إلى أن المؤامرة مدبّرة منذ عهد الانتداب، وإلى أن الغرب أدارها بمكر، وتسللت منها الأقليات بمكرٍ مشاركٍ عندما كان أهل الحكم من السنة غارقين في حسن ظنونهم ونواياهم.
التعبير الأكثر راديكالية عن القناعة السابقة هي الحركات الجهادية التي ترى معركتها الرئيسية الكبرى ضد الغرب، وهي تخوضها ولو كانت في “أرض رباط” تبعد عنه آلاف الكيلومترات حينما يتعذر عليها ترهيبه في مدنه وعمرانه. هي أيضاً تخوض المعركة بعدمية سياسية، لا لغباء مستحكم وإنما بناء على الأيديولوجيا التي لا ترى أفقاً خارج الصراع مع الغرب والتغلب عليه. جزء من هذه الأيديولوجيا مردّه تردي الأوضاع في العقود الأخيرة، والجزء الآخر موجود في تأسيس الحركات الإسلامية على أسس نهضوية وإحيائية، وإمبريالية أيضاً كما هو حال نظيرتها القومية.
في المقابل من الخطاب “الإمبريالي” المعادي للغرب اشتغل الخطاب الإسلامي داخلياً على تطييف السُنة، وأعطاه استثمار السلطة الطائفي مبررات أكثر من وافية. رداً على محاولات الإسلاميين، برزت تلك الأفكار التي ترى في السُنة الأمةَ التي لا يمكن، ولا يجوز، أن تتصاغر إلى الطائفة مع الاستشهاد بتاريخ من المرونة واستيعاب الأقليات. إلا أن تلك المرونة أقرب إلى تسمية “أهل السُنة والجماعة” من اختزالهم إلى أهل السنة، ودائماً مع الانتباه إلى صلاحية التسمية القديمة الملازمة لزمنها لا لكل زمان ومكان. من المؤكد أن الاستشهاد بفترات إيجابية من تعاطي الحكم السني مع المختلفين لا يقدم اليوم اطمئناناً لهم، لأنه لا يلحظ الحاجة إلى الاستيعاب وفق مفاهيم معاصرة.
لمخيال الأقليات مساهمته في صناعة صورة السُنة، وهي مساهمة انتقائية واختزالية بدورها. هذا المخيال يسترجع أسوأ لحظات الصراع والإقصاء والتهميش الذي مارسه حكم سني، ويتغافل عن صراعات سنية-سنية لم تكن أقل دموية أو أقل تواتراً، بل إن السمة الغالبة للصراعات القديمة في سوريا أنها صراعات بين سُنة على السلطة، ولم تكن لتبرز خلالها المسألة السنية لأنها ليست مثار خلاف بين المتحاربين. وكما هو معلوم شهد عقدا السبعينات والثمانينات وفرة في المؤلفات التي تعزز صورة السنة كأهل حكم طوال التاريخ الإسلامي، وأهل تزمت بالمقارنة مع الحركات الثورية لمذاهب أخرى.
لمناسبة الثورة، بادر إعلام الأسد مبكراً إلى استغلال ذلك المخيال عن السُنة، مع التركيز من جهة أخرى على مظلومية الأقليات، وأُلصق بالعرب السنة تاريخ لم يكونوا خلاله هم القوة المسيطرة، أي تاريخ الحكم العثماني. لكنها كانت أيضاً مناسبة لبروز الحركات الإسلامية، ثم طغيانها على الساحة المقابلة لتبدو المعركة بينها وبين سلطة الأسد، كـ”ثورة سنية” في أحسن التسميات.
إذا كان الحديث عن ثورة بأفق وطني ديموقراطي، فمن المؤكد أن الدفع بالسُنة كجماعة طائفية هو على الضد من الثورة. لا ينفع هنا الاستشهاد ببلدان لعب فيها الإسلام دوراً توحيدياً لكونه الوعاء الأوسع، أو لكونه من ركائز التمايز الوطني عن قوة استعمارية أو عدوة مقابلة. في البلدان المتعددة دينياً ومذهبياً لا يمكن للزج بالدين في السياسة إلا أن يكون عامل تفرقة بالتعبير القديم، ولا يمكن إلا أن يكون على النقيض من المسألة الوطنية.
تقدّم لنا الحركات الإسلامية النموذج الكافي والوافي للكيفية التي تتعارض فيها مع المشروع الوطني، ذلك بدءاً من الصعوبة التي سنلاقيها اليوم إذا قررنا إحصاء الجهات الإسلامية النشطة في سوريا، سواء كانت تنظيمات أو فصائل محلية أو تلك العابرة للحدود. بتبسيط شديد، إذا كانت عشرات التنظيمات الإسلامية غير قادرة على التوحد، رغم الأيديولوجيا التي تجمع بينها بعموميتها، فمن المستحيل تصور دور توحيدي لها على المستوى السوري ككل.
ويبدو سؤال توحيد هذه الجماعات سؤالاً ساذجاً، لا يتفهم الآليات التي سار وفقها صعود الإسلام السياسي بمختلف تنويعاته. لقد بدأ الصعود منذ السبعينات، وكلما حققت التنظيمات الموجودة نجاحاً أغرى ذلك “مستثمرين” جدد للمضاربة في سوق واعد، بمعنى أن التكاثر والفُرقة ليسا سلوكاً فردياً يمكن علاجه كما يتمنى أنصار الإسلاميين، ومصدرهما ليس مؤامرة غربية كافرة، بل هناك في الغرب من يودّ توحيد هذه الحركات في مرجعية يمكن “التحاور” معها. الاعتدال لم يكن في أي وقت من أدوات المضاربة الناجحة، على العكس كان التطرف هو الرابح، بحيث يُفضّل أن يضارب أي مستثمر جديد بالمزايدة على سابقيه بكونه أكثر راديكالية منهم، وأقرب منهم إلى الصواب الذي لا بد أن يكون منتهى الراديكالية.
بعبارة أخرى، لا بد لآليات الإسلام السياسي إلا أن تفرّق على مستوى الطائفة المتخيلة، وهذا تعبير ملطَّف عن صراعات وحشية ودموية بين تنظيمات تتبادل التكفير. هي نظرياً تزعم تمثيلها بعد محاولة تحويلها إلى طائفة، وتتكفل الآليات نفسها بتفتيتها بين المتخالفين الإسلاميين. في الحصيلة سيكون هناك وهم كبير عن الطائفة السُنية، لا ينتقص منه الفشل الذريع في صناعتها، بل النجاح في تحطيمها قرباناً لصعود رمزي لم يقدم للمحسوبين عليها أية منفعة.
لا يُتوقع من الحركات الإسلامية نتائج مغايرة لما سبق، أي اكتساب الأعداء خارجياً بأيديولوجيا إمبريالية، واكتسابهم داخلياً بدءاً من تكفير ومحاربة “الشقيق” الإسلامي. لذا، لن يحكم السُنة سوريا بوصفهم سُنة، أي عندما تختطف تمثيلهم حركات تعادي الخارج والداخل معاً، بل تعادي بطبيعتها الحريات الفردية والجماعية كما هو الحال في مناطق تسيطر عليها في سوريا، وفي هذه الطبيعة يكمن عداؤها الجوهري للثورة فلا هي طبيعة وطنية ولا هي ديموقراطية، في حين يستحيل تصور تغيير في سوريا “إذا كان من مستقبل لبقائها موحدة” من دون المساهمة الأساسية للأكثرية السنية، وبشرط عدم مجيء المنحدرين منها بسُنيتهم إلى السلطة.
المصدر: المدن