عمر قدور
من المفروغ منه أن السوريين في مقدمة الذين يترقّبون نتائج الانتخابات التركية غداً، الرئاسية منها خاصةً. والصورة الرائجة في بعض الأوساط أن اللاجئين منهم في تركيا سيُطردون غداة الانتخابات، أو سيتعرضون لأفعال منفلتة شديدة العنصرية بغطاء من أحزاب المعارضة فيما لو خسر أردوغان منصبه. السيناريو المتشائم الآخر، الرائج في أوساط سوريّة خارج تركيا، أن كمال كليتشدار أوغلو “حال فوزه بالرئاسة” سيُهرع إلى دمشق ليضع يده في يد بشار الأسد، ويعيد إليه اللاجئين مع الأراضي السورية الواقعة تحت نفوذ أنقرة.
ما يدعم السيناريو المتشائم الخاص باللاجئين أن التقديرات تشير إلى درجات من العنصرية ورفض اللاجئين متفشية بين ما لا يقل عن 75% من المواطنين الأتراك، وهذه نسبة ضخمة حقاً فيما لو انفلت قسم منها بلا ضوابط، أو بتحريض خفيّ من السلطة. في الأرقام أيضاً، تمنح استطلاعات الرأي الرئيس أردوغان ما يقارب 50% من الأصوات، أي أن نصف قاعدته الانتخابية مضادة للاجئين بموجب النسبة السابقة، هذا إذا قلنا أن القواعد الشعبية لأحزاب المعارضة مضادة لهم بشكل مطلق، وهو غير صحيح بالتأكيد ما يرفع النسبة المشار إليها ضمن جمهوره.
في السياق نفسه، الخاص بتعاطي أردوغان وقاعدته الشعبية مع موضوع اللاجئين، كنا قد شهدنا منذ خمس سنوات تحولاً معلناً عن النظرة الإيجابية السابقة. فمن المعلوم أن قضية اللاجئين استُخدمت مبكراً في التجاذبات التركية-الأوروبية، وكان يمكن أن تبقى في العموميات لو لم يقل الرئيس التركي أن بلاده تكبّدت 40 مليار دولار لقاء استضافة ما يزيد عن ثلاثة ملايين ونصف سوري. تلك المليارات المُشار إليها هي رقم ضخم جداً، ويزداد ثقله مع التراجع الاقتصادي والمعيشي للمواطن التركي، ومع مرور خمس سنوات لاحقة بتكاليف مضافة عليه. وبصرف النظر عن عدم إعلان تفاصيل متعلقة بالمليارات الأربعين، أو بالمليارات التي قدّمها الاتحاد الأوروبي لأنقرة ضمن الاتفاق على الحد من تدفق اللاجئين إليه، فإن صدور التصريح عن الرئيس يمنحه مصداقية لا تحظى بها تصريحات المعارضين، أو أية جهة معادية للاجئين.
يصبّ في المسار ذاته أن انعطافة أردوغان تجاه بشار الأسد، منذ بدء المحادثات بين مخابرات الطرفين، تم تبريرها بالعمل على إعادة اللاجئين إلى سوريا بينما رُبط الوجود التركي في الشمال السوري فقط بالحرب على قسد والفرع السوري من حزب العمال الكردستاني. وفي الغضون أُبرِزت إعلامياً “وبمبالغة واضحة” مشاريعُ إنشاء وحدات سكنية في مناطق النفوذ التركي، حيث رُبطت بترحيل لاجئين من تركيا تحت لافتة “عودتهم طوعياً إلى بلادهم”. في المحصلة، لا غرابة إذا بدا التنافس الانتخابي الحالي، في جزء مهم منه، كأنه تنافس على مَن هو الأقدر على التخلص من اللاجئين السوريين أسرع من الآخر، والتخلص من تداعيات الحدث السوري برمته.
لكن الخلاصة السابقة سينقضي مفعولها مع انتهاء الانتخابات، سواء في الجولة الحالية أو جولة الحسم بعد أسبوعين. فالفائز في الانتخابات، أيّاً يكن، لن يدفع باللاجئين السوريين إلى الأراضي السورية فور تسلمه السلطة. لا أردوغان أعلن عن نيته فعل ذلك، ولا كليجدار أوغلو الذي بالغ في “تفاؤله” بإعلانه العزم على إعادتهم خلال سنتين، مع التنويه بأن شطراً كبيراً من تفاؤله يتوقف على تعاون الأسد واستعداده لإعادتهم بتوفير ضمانات أمنية لهم، وأيضاً ضمانات معيشية.
وإذا ناقشنا فرضية فوز كليتشدار أوغلو؛ فهو مرشّح المعارضة التي تضع في برنامجها استعادة النظام البرلماني، وإلغاء تفرّد الرئيس بسلطة اتخاذ القرار. ومن المحتمل جداً، في حال خسارة أردوغان، أن توافق كتلته البرلمانية على مشروع من هذا القبيل. في كل الأحوال، سيُضطر مرشح الطاولة السداسية إلى مراعاة حلفائه الانتخابيين، ومنهم مثلاً حزب المستقبل برئاسة أحمد داود أوغلو الذي له موقف إيجابي من اللاجئين، ومنهم أيضاً حزب “الجيد” القومي برئاسة ميرال آكشينار التي لن تقبل انسحاباً من سوريا لا يراعي هواجس حزبها تجاه الأكراد. جدير بالذكر أن أحزاب الطاولة السداسية تخوض الانتخابات البرلمانية معاً، وحتى في حال تحقيقها الأغلبية فإن حزب الشعب الذي يرأسه كليتشدار أوغلو سيبقى بحاجة إلى أصوات حلفائه، ما لم يتنكر تماماً لوعوده الانتخابية ويستفرد بالحكم بموجب الصلاحيات الممنوحة للرئيس.
أما فوز أردوغان بالرئاسة فيعني تمسّكه بالصلاحيات التي بذل أقصى جهوده لإقرارها مع التحول من نظام برلماني إلى رئاسي، وقد يصبح هذا من أهم شواغله إذا نالت أحزاب المعارضة أغلبية كافية لطرح تعديلات دستورية تستعيد النظام القديم. من دون شطط في التوقعات يبدو أردوغان مرشّحاً أكثر من كليتشدار أوغلو لاتخاذ قرارات دراماتيكية “بما فيها تلك الخاصة بسوريا”، بحكم تفرّده بصلاحيات الرئاسة وتفرّده بقرار حزب العدالة والتنمية. جدير بالذكر أنه من ضمن رؤساء أحزاب الطاولة السداسية هناك ثلاثة كانوا إلى جانب أردوغان في حزب العدالة؛ أحمد داود أوغلو وميرال آكشينار، وعلي باباجان وزير الاقتصاد السابق الذي أسس حزب “الديموقراطية والتقدم” بدعم من الرئيس السابق عبدالله غُل. وخروج هؤلاء الثلاثة وعبدالله غُل وغيرهم بمثابة مرآة للتحول في الحزب، والذي يمكن اختصاره بتحول أردوغان من زعيم للحزب إلى “أنا الحزب”.
أُفرِغ حزب العدالة من التنوع والحراك في داخله، وذهبت معهما الآمال التي كانت معقودة على حزب إسلامي يقدّم للمنطقة صورة مغايرة عن الأحزاب الإسلامية، ويكون قاطرة لها على سكة التغيير. وكان من المأمول أن تُقبل تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي ما يعزز الوعود التي أتى بها حزب العدالة في مستهل انطلاقته، فتقدّم التجربة التركية نموذجاً لجيرانها على صعيد الديموقراطية، وأن يساعد حل القضية الكردية في تركيا على إيجاد حلول لها في الجوار. بدل تلك الآمال انهار التقارب التركي-الأوروبي، وإن تكن المسؤولية لا تقع على أنقرة منفردة، وابتعدت الأخيرة عن واشنطن خاصةً على وقع العلاقة الشخصية المميزة بين أردوغان وبوتين، والتي أفضت سوريّاً إلى مسار أستانة، ثم إلى المسار الرباعي “أستانة+الأسد”، بينما قدمت الفصائل في الشمال السوري أسوأ نموذج إسلامي تحت إشراف أنقرة.
الخبر الوحيد الجيد حالياً للسوريين أن قضيتهم ليست ممسوكة كلياً من أنقرة وشركائها في المسار الرباعي، وهو ما يحدّ من أي شطط للرئيس المقبل، وأقصى ما يمكن فعله يمضي به أردوغان من خلال هذا المسار الذي وصل إلى المصافحة والتقاط الصور التذكارية بين وزير خارجية تركيا ووزير خارجية الأسد، وإلى إعلان موسكو عن خريطة طريق لتطوير العلاقات بين الجانبين تم الاتفاق عليها في الاجتماع الرباعي الأخير. مع ذلك يبقى مفهوماً خوف السوريين من أي تغيير، خشية أن يكون على حسابهم، رغم أن الفكرة الرائجة ومفادها نكوص أردوغان عن تقاربه مع الأسد إذا فاز في الانتخابات ليس لها ما يسندها، أما ما هو معهود من تراجع عن الوعود الانتخابية بعد الفوز فقد يكون خبراً سيئاً للذين يحلمون بتركيا خالية من السوريين بعد غد.
المصدر: المدن