نجيب الغضبان
منذ شيوع خبر الزلزال والكارثة الإنسانية التي أعقبته، كان الأمل أن تكون الاستجابة لهذه الكارثة الطبيعية إنسانية بحتة، لا تميّز بين الضحايا بسبب دينهم أو عرقهم أو لغتهم أو جنسيتهم أو مكان وجودهم، لكن طبائع البشر أبت إلا أن تغلب، فقد أظهرت هذه الكارثة أفضل ما لدى البشر، من خلال العمل التطوّعي المبهر، وأسوأ ما فيهم، بمحاولة استغلال المأساة من الطغاة المتحكّمين وتجّار الكوارث. حجم الكارثة على الشعبين التركي والسوري أكبر من طاقاتهما، الأمر الذي استدعى تدفق المساعدات الخارجية، من الدول والمنظمات الإنسانية والدولية. ومنذ الساعة الأولى للكارثة، تبدّى الفارق في الاستجابة للزلزال في الحالتين التركية والسورية. ففي الأولى، تمّت تعبئة كل إمكانات الدولة على المستويين، الرسمي والشعبي، بينما كشفت الحالة السورية عن عمق المأساة للمتضرّرين، سواء كانوا داخل مناطق سيطرة النظام أم خارج سيطرته في الشمال الغربي.
وبالتركيز على الحالة السورية، بدا التعاطف الشامل للسوريين والسوريات مع الضحايا، وتجلّى باستجابات متفاوتة، حسب إمكاناتهم والقيود المفروضة في أماكن وجودهم. ومع أنّ الأغلبية العظمى من السوريين كانوا يأملون عدم تسييس المساعدات الإنسانية، إلا أنّ التسييس وقع منذ اللحظات الأولى، وفاحت رائحته مع تزايد أعداد الذين قضوا تحت الأنقاض والناجين والمشرّدين بفعل التباطؤ في التعاطي مع الكارثة. ولعل الصورة الفاقعة للتسييس، بدأت بمحاولة النظام السوري استجداء العطف، والقيام بحملة علاقات عامة لما سمّيت ضرورة “رفع العقوبات والحصار” المفروضين على البلاد، لأنه يعيق محاولات الإغاثة. أما الصورة الثانية للتسييس، فتجلّت في عدم وصول أي نوع من المساعدات للشمال الغربي في الأيام الأربعة الأولى، وهي الأيام الحاسمة في إنقاذ الناجين من الزلازل. وهنا، كان التسييس بفعل مجتمع دولي ومنظمة دولية (الأمم المتحدة) رهينا بسياسة روسيا البوتينية التي نجحت في فرض شرط عبور المساعدات الإنسانية إلى أكثر من أربعة ملايين سوري من خلال معبر واحد، وبتهديد دوري بتعطيل هذا المسار كلّ ستة أشهر. وقد وقع عدم وصول أي معونات تُذكر إلى الشمال الغربي، في ظرف كارثي للجار التركي الذي تمركز الزلزال في منطقة شاسعة من أراضيه الجنوبية، وفي أجواء انتخابية لا تسمح للحكومة بإظهار أنها تقدّم معاملة تفضيلية للسوريين على حساب مواطنيها.
كان نتيجة التسييس هذه أن نجح النظام في الحصول على مساعدات سريعة، من دول ومنظمات لم تقطع علاقاتها معه أو من جهاتٍ صدّقت ادّعاء النظام أنه مستعد لمساعدة الضحايا من دون تسييس. لكن التغطية الإعلامية المركزة، خصوصا وسائل التواصل الاجتماعي، كشفت، ومن داخل دائرة المؤيدين له، أنه سرق أكثرية المواد الإغاثية من المعونات المقدّمة، بينما لم يصل إلى الضحايا إلا النذر اليسير. كانت نتيجة التسييس في الشمال الغربي من البلاد واضحة في حرمان العاملين في تلك المناطق، مثل الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، والمنظمات الإنسانية والطبية والإغاثية المحلية العاملة على الأرض من الأدوات الضرورية لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، ومساعدة الناجين من الكارثة. وفي الحالتين، كان الشعب السوري المكلوم هو الضحية.
نجح النظام في إقناع بعضهم بأنّ المؤامرة الكونية، وخصوصا العقوبات والحصار المفروضين عليه، هما المسؤولان عن معاناة السوريين، خصوصا الذين يعيشون في مناطق سيطرته، بما في ذلك الاستجابة الهزيلة في التعاطي مع الكارثة. وبدأت تظهر بعض الأصوات المنادية بضرورة مؤازرة النظام في حملته لرفع العقوبات عنه، وأخرى تُحمّل الجهات الفاعلة (قوى الأمر الواقع) في الشمال الغربي، مسؤولية متوازية ومتساوية لمسؤولية النظام عمّا آلت إليه حال البلاد. ولسنا هنا في وارد الدفاع أو التبرير للقوى المتطرّفة أو بعض الفصائل العسكرية أو التشكيلات السياسية في الشمال الغربي، أيّاً من ممارساتها المجحفة بحق السوريين هناك. لكن تحميل هذه الجهات مسؤولية مماثلة للنظام هو إساءة إضافية للشعب السوري المنكوب، وتبرئة لنظام ارتكب كلّ موبقات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ومع تصدّي بعضهم لهذا الموضوع، من الهام جداً، خصوصا من منطق التفكير المستقبلي لإخراج البلاد من مآسيها، وضع الأمر في سياقه الصحيح، والتذكير بالحقائق التالية:
أولاً، النظام هو من هجّر 90% من سكان الشمال الغربي، وكلّ السوريين الذين يقطنون الجنوب التركي الذين وقعت عليهم الكارثة الطبيعية.
ثانياً، المدن التي خرجت عن سيطرة النظام عوقبت بتدميرها بشكل كامل أو جزئي، وكأن زلازل متعاقبة حلّت عليها، بفعل القصف الوحشي، خصوصا بالبراميل المتفجّرة، التي لا يملكها إلا النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون.
ثالثاً، لقد استخدم النظام سلاح التجويع ضد كثيرين من المناطق التي حاصرها، لأنها خرجت عن سيطرته، ومنع عنها المساعدات الدولية والإغاثية كسلاح حرب لإجبارهم على مغادرة ديارهم، وهذا ما يعتبر جريمة ضد الإنسانية.
رابعاً، لقد أثبتت التحقيقات الأممية استخدام السلاح الكيميائي من النظام ضد المهجّرين الذين فرّوا بحياتهم، أو تمّ تهجيرهم إلى الشمال الغربي. آخر هذه الإدانات كانت قبل الكارثة بأسبوع.
خامساً، يتحمّل الاحتلال الروسي، والإيراني أيضاً، مسؤولية مباشرة في تدمير منشآت البنى التحتية، من مدارس ومستشفيات وأفران في مناطق كثيرة خرجت عن سيطرة النظام، خصوصا في حلب والشمال الغربي. لقد ذكر بعض العارفين بأحوال مدينة حلب، على سبيل المثال، أنّ مباني كثيرة سقطت في الزلزال الأخير الذي أصاب المدينة، كان قد مرّ عليها أكثر من 200 نوع من القنابل والأسلحة الروسية، كما افتخر بذلك بوتين ووزير دفاعه.
سادساً، إنّ تمرير قرارات مجلس الأمن لتزويد السوريين بمساعدات إنسانية، من دون موافقة النظام، جاء نتيجة ممارساته في نهب المساعدات الدولية وتوزيعها على مؤيديه، وبيعها في الأسواق، وحرمان المحتاجين لها. لكن روسيا أصرّت على تقييد مرور تلك المساعدات من خلال معبر واحد، وهي بالكاد تكفي الاحتياجات الأساسية للنازحين في أنحاء سورية، خصوصا القاطنين في الشمال الغربي. وكانت هذه الحسابات السياسية الحساسة أحد الأعذار في التأخّر بتمرير المساعدات الإغاثية الملحة في الأيام الأولى للكارثة.
سابعاً، رغم العقوبات التي فرضت على أفراد من النظام (أولئك الذين لهم علاقة بآلة الحرب والقمع ضد الشعب السوري)، من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، استثنت هذه العقوبات بشكل صريح الغذاء والدواء والاحتياجات الإنسانية، ولم تمنع أي جهة من تزويد مناطق النظام بما تحتاجه، كما أنها لم تكن عائقاً من إرسال معونة مباشرة بعيد الكارثة الأخيرة.
ثامناً، تحوّل النظام في أيامه الأخيرة، إضافة إلى استمراره في السلب والنهب والتعفيش المنهجي للسوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرته، ومن قبل ذويهم في الخارج، إلى الاستثمار في تصنيع وتوريد “الكبتاغون”، وذلك كأولوية استراتيجية للحصول على موارد إضافية للصرف على أجهزته القمعية وابتزاز دول الجوار.
وأخيراً، توقّع أن يترفّع النظام الذي قتل ما يقرب من المليون إنسان، وشرّد نصف الشعب السوري، واعتقل ما يزيد عن 150 ألف سوري، عذّب وقتل تحت التعذيب كثير منهم، واستخدم الأسلحة المحرّمة دولياً، وعاقب المعارضين بمنع المساعدات الإنسانية عنهم، لذا فإن توقع أن يقف هذا النظام موقفاً إنسانياً تجاه من يعتبرهم “إرهابيين” (كما سمّاهم وزير خارجيته) هو الوهم بعينه. كما أنّ تزويد النظام بوسائل الاستمرار والتمكين وإعادة التأهيل هو موافقة ومشاركة في سجل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية (أي أنها ارتكبت بحق كل من يقيم وزناً للإنسانية).
خرج رأس النظام، بعد أربعة أيام من الكارثة، وهو يوّزع الابتسامات البلهاء خلال زيارة مشاف في المناطق المنكوبة، ليقدّم بذلك صورة صارخة عن طريقة تفكيره وتدبيره وإنسانيته. لقد ظهر وهو مسلّح بعدّة مكالمات تلقاها من مسؤولين عرب ودوليين، وبمزيد من المساعدات التي ذهب أكثر من 90% منها إلى مؤيديه المسؤولين عن الحالة المأساوية للسوريين، وبحلم بأنه قادر (كأبيه) على حكم سورية إلى الأبد.
يعلم السوريون أنّ الطرف الآخر المسؤول عن معاناتهم هو المجتمع الدولي، بشقّيه الداعم للنظام، والمتخاذل عن وضع حد لجرائم النظام، بمن فيهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية والإسلامية. هذا المجتمع الدولي يمكن له أن يكفّر عن بعض خطاياه بالاستماع إلى صوت أغلبية السوريين، بأنّ نقطة البداية في مساعدتهم تكمن في الإصرار على رحيل المسؤول الأول عن الدمار الذي لحق بالبلاد والعباد، وذلك أول الغوث.
المصدر: العربي الجديد