مادة الحلّ النهائي .. السوري العادي ومقدمات عملية

مادة الحلّ النهائي .. السوري العادي ومقدمات عملية

مادة الحلّ النهائي .. السوري العادي ومقدمات عملية

مادة الحلّ النهائي .. السوري العادي ومقدمات عملية

مادة الحلّ النهائي .. السوري العادي ومقدمات عملية

مادة الحلّ النهائي .. السوري العادي ومقدمات عملية

مادة الحلّ النهائي .. السوري العادي ومقدمات عملية

شارك

مادة الحلّ النهائي .. السوري العادي ومقدمات عملية

مادة الحلّ النهائي .. السوري العادي ومقدمات عملية

مضر رياض الدبس

طرحَ الكاتب فكرة “الحلّ النهائي” في مقالة سابقة “المسألة السورية وتأسيس الحلّ النهائي” (العربي الجديد، 31 يوليو/ تموز 2021)، ثم استكمل فكرة تأسيس الحل النهائي في مقالتين متممتين “سبعة معانٍ للتفكير بعد 2011″ (العربي الجديد، 6 أغسطس/ آب 2021)، و”التأويلات الكارثية للثورة السورية” (العربي الجديد، 21 أغسطس 2021)، واستكمالًا لهذا المسار في التفكير نحو تحديد خطوات عملية للحل النهائي، تطرح هذه المقالة إلى النقاش العمومي السوري فكرةً ثانية، نسميها “مادة الحل النهائي” وتحاول بسط هذه الفكرة، لكن بعد استذكارٍ سريعٍ وضروري لأهم الأفكار التي رأى الكاتب أنها تؤسس للحل النهائي، ويمكن تكثيفها في النقاط الآتية:

أولا، فهمٌ جديدٌ لطبيعة الصراع في سورية: ليس الصراع بين معارضة ونظام، أو بين نظام وشعب، لكنَّه صراعٌ بين منظومتين ذهنيتين، عصرية تنتمي إلى ما بعد 2011 تمتلكها كائنات زمانية، ومنظومة ذهنية تنتمي إلى ما قبل 2011 وتمتلكها كائناتٌ لم تنجز العبور إلى ما بعد 2011.
ثانيا، اختار السوريون الدخول من باب “العمومي”، وأدخلت الثورة مفهوم العمومية إلى السياسة السورية التي كانت قبلها باطنية؛ فتغير الخطاب الذي يقاوم النظام من عقلية المعارضة النخبوية الضيقة الضعيفة إلى الذهنية العمومية المفتوحة القوية التي يشارك فيها الكل. وكانت الثورة فعلا عقلانيا في جوهره، تم تأويله تأويلاتٍ كارثية (ناقشها مقال سابق).

ثالثا، مضمون خطاب الثورة كان نقيضًا للنظام والمعارضة معًا، لأنه صار مفيدًا يستند إلى فكرةٍ جوهرها أن السوري أصبح ذاتًا مُفكِّرة، بعد أن كان موضوع تفكيرٍ مُفكَّرًا فيه من نظامٍ سلطاني مجرم أو من “معارضةٍ نخبوية”.

رابعا، ينطلق الخطاب الوطني من التوق إلى الحياة الذي يتشاركه السوريون كلهم، وهذا التوق إلى الحياة هو المشترك الأكثر وضوحًا في الخطابات العفوية المختلفة، مثل خطاب الموالاة (كنا عايشين)، وخطاب الثوار المنهكين (بدنا نِخلَص)، وخطاب الـ”ما بين” (بدنا نعيش). وخطاب الحياة نقيضُ خطاب الحرب والكراهية وخطابات القتل، سواء قتل الآخر أو قتل الذات بخطابات التضحية والاستشهاد والجهاد وغيرها. وهو خطابٌ متحرّرٌ من خطاب النظام بطبيعة الحال، ومن خطاب المعارضة بالضرورة، يحرّر فكرة الحرية من احتكار المعارضة ويصنع سلطة تحريرٍ وطنيةٍ شاملة، لا تقيم وزنًا لطقوس المعارضة السياسية.

ونفهم الثورة بموجب هذا التأسيس بوصفها فعلًا تواصليًا، ومشروعًا تنسيقيًا ممتدًا، وهذه الخاصية التواصلية هي التي ميَّزت السوري الجديد بعد 2011. ولم يمتد هذا التواصل إلى من يشبه المبادرين إليه، ومن يشاركهم الرأي والمعتقد فحسب، بل كان عابرًا للحدود كلها، بما فيها حدود “العدو” القاتل؛ فتمَّ التواصل مع الجنود بالورود، وبكثير من الخطابات التي بنيت على الحب، وتحفيز الإنسان فيهم. ولأن المنهج التواصلي كان جديدًا، غير نخبوي، صار نتاجه (أي الثورة) موضع تأويلٍ وسوء فهمٍ دائمين.

واستنادًا إلى هذا التأسيس، صار بإمكاننا الانتقال إلى سؤالٍ آخر لا يقل أهميةً عن تأسيس الحل، وهو عن مادة هذا الحل، أو عن الأداة الأكثر ملاءمةً لإنجاز هذا الحل. ويبدو، بعد التفكير على أكثر من مستوى، أن المشهد ذاته الذي نتجت منه المسألة السورية لا يزال أيضًا مفتاح حلها، ويعني ذلك شيئًا مهمًا: إن السوري العادي الذي كان مادة الثورة السورية قبل عشر سنوات لا يزال مادة حل المسألة السورية النهائي اليوم. و”السوري العادي” (Layman) توصيفٌ يتطابق مع توصيف “ثائر ينتمي إلى ما بعد 2011″، لأن الثورة هي مشروع السوريين العاديين التواصلي الكبير الذي انطلق من دون النخب، بأنواعها الثقافية والدينية والاجتماعية، وإلى ما هنالك. ومن سمات السوري العادي أنه إسلامي، لأنه جزء من الثقافة السورية الإسلامية مع إمكانية أن يكون غير مسلم أو غير مؤمن، وأنه علماني لأنه مفصولٌ عن المؤسسة الدينية مع إمكانية أن يكون مؤمنًا… والسوري العادي متديّن، وملحد، وديني، ولا ديني، وينتمي إلى ثقافة قبلية عشائرية، أو مديني لا عشيرة له، غني أو فقير، عربي وكردي وأرمني وآشوري وشركسي، إلى ما هنالك… السوري العادي هو جمعٌ سلس لهذا كله من دون تناقض؛ لأنه فردٌ متحرّر من سطوة الجماعة أيًا كانت. هكذا نستطيع أن ننحت تعريفًا أدقّ للثورة السورية؛ فنقول: الثورة هي تنسيقيةُ السوريين العاديين الكُبرى، التي أدّت إلى خروجهم بوصفهم أفرادًا يتوقون إلى ذواتهم، في تظاهرة واحدة، راكموا فيها رأس مال اجتماعياً سورياً؛ فعادوا منها جماعةً وطنية مدينية، وصاروا بموجبها يقتربون من فردانيتهم أكثر، ومن ثم يقتربون من ذواتهم أكثر. وبموجب رأس المال الاجتماعي الوطني هذا، صار السوري العادي، لأول مرةٍ في حياته، مؤهلًا للعمومي، وصارت سورية لأول مرة فكرةً ممكنةً بالمعنى السياسي والاجتماعي، وصارَ هذا الإمكان ذا قيمةٍ تحيل على الكرامة.

وإذا استندنا إلى تعريف الثورة هذا، وقبلنا بعلاقتها العضوية مع السوري العادي، يصير بإمكاننا أن نضع مقدّماتٍ للخطوات العملية نحو الحل، أو مداخل عريضة للإجابة عن سؤال ما العمل. ويمكن أن نبنيها كالآتي:

أولًا: أن نضع الحياة الكريمة وصونها بوصفها هدفًا غائيًا وخلفيةً ذهنيةً ومنهجيةً لكل هدفٍ استراتيجي، من ثم مناهضة كل خطابٍ يدعو إلى القتل، أو إلى التضحية بالنفس، أو إلى أي فعلٍ يحتفي بالموت. وتصنيف أعداء الحياة كلهم بوصفهم أعداءَ السوريين.

ثانيًا: العودة إلى الطريق الأول، الذي يعني طلاقًا كاملًا بين السوري العادي والنخبة التي تنتمي إلى ما قبل 2011. يعني هذا الطلاق، بطبيعة الحال، توقفًا كاملًا عن استهلاك منتجات هذه النخبة وصناعاتها، مثل الطائفية، والمناطقية، ومفهومي الأقليات والأكثرية، والتعصّب الإثني، والأيديولوجيات؛ فهذه جميعها من صناعة النخب، وليست من صناعة السوري العادي.

ثالثًا: تحفيز التفكير الذي ينتمي إلى ما بعد 2011، وبسط أفكاره وفوائده، وبناء خطاب عصري يستند إليه للوصول السلس إلى ما يسميه هابرماس “مخزون النقد الذي تتم مراكمته في صلب الفعل التواصلي”؛ فالثورة بوصفها فعلًا تواصليًا تُنتج أيضًا مراقبةً ذاتيةً لمسار التفاهم الذي يتطوّر باستمرارٍ في جوهرها.

رابعًا: العودة إلى الثقة السورية الكلاسيكية المتجذّرة في المجتمعات المحلية السورية، والارتقاء بها خطابيًا إلى المستوى السياسي، لاستثمارها في زيادة مراكمة رأس مال اجتماعي وطني. واستثمارها في أنظمةٍ أكثر ملاءمة للزمان وللمشروع الوطني، مثل اللامركزية الواسعة، والغيرية أو “المواطنوية” (civility).

خامسًا: تمثيل السوريين في عالم السياسة، وتمثيل السياسة في عالم البسطاء، وهذا يتطلب بناء سياسياً سورياً يُترجِم من العمومية وإليها: يبني خطابًا من كلام السوري العادي، ويفكّك الخطابات للسوري العادي، وهذه هي نواة النخبة التي تنتمي إلى ما بعد 2011، هي نواة من “المترجمين من العمومية وإليها”. وبناء هذه النواة، في واحدٍ من أهم معانيه، هو انقلابٌ أبيض على السياسيين السوريين الكاذبين، وعلى السياسيين الصادقين ولكن غير الأصيلين: الذين يفتقرون إلى الأصالة اللازمة لنقل المشهد (ترجمته) بدقة؛ فتصيرُ صدقيتهم شيئًا نظريًا لا يعمل.

الأصالة والصدقية متداخلان يستحيل فصلهما، إذا كان الكلام عن السياسي المؤهل للعمل في الحلّ التنفيذي للمسألة السورية؛ فادّعاء الأصالة من دون إنجاز صدقية ملائمة كاذب، وادعاء الصدقية من دون الاستناد إلى أصالةٍ تبنيها واهم. لذلك لا يكفي أن يكون المرء صادقًا ليكون مترجمًا من العمومية وإليها (أي ليصير مؤهلًا للعمل السياسي السوري)؛ لكن يجب أن يكون أصيلًا أيضًا: الصدق والأصالة معًا هما شرطا السياسي السوري، ليكون مؤهلًا ومقبولًا للعمل، والانقلاب الثوري على كل من لا يتمتع بهما بالدلائل التجريبية منذ 2011 فعلٌ مشروعٌ، يصب في حق السوري في حماية نفسه من النظام والمعارضة معًا.

سادسًا: استخلاص مفهومات الاجتماع السياسي من صلب عالم الحياة الخاص بالسوري العادي الذي ينتمي إلى ما بعد 2011. هذا يعني تأويلًا عقلانيًا للثورة من الذين لم يشاركوا في خلقها، وهذا بطبيعة الحال تفكير نيته الفهم والتعليل، ولأن التعليل والتعلُّم مفهومان مترابطان على أكثر من مستوى، يصير هذا التأويل العقلاني مهمًا جدًا.

المصدر: العربي الجديد

شارك