سوسن جميل حسن
ماذا بعد التسويات التي تلوح في الأفق بمبادرة من تركيا للتقارب مع النظام السوري بتفاهم روسي، والتي بدأت خطواتها الأولى بلقاءات الأجهزة الأمنية ووزراء الدفاع، ثم الموعد المرتقب لوزراء الخارجية، في ارتقاء جلي من أجل الوصول إلى القمة، قمّة بين الرؤساء؟ أليس السؤال واجباً ومنطقياً؟
هي تسويات سياسية على أرضية المصالح ليس أكثر، وليست حلاً للمشكلة السورية، حتى لو كانت الخطابات المعلنة دائماً تؤكّد وحدة الأراضي السورية، سوف ينجم عنها ترتيب واقع جديد على الأرض، في صلبه عودة اللاجئين إلى مناطق الشمال، مناطق النفوذ التركي، بالتوازي مع ترتيبٍ للقضية الكردية ومناطق الإدارة الذاتية، من دون اتضاح الصورة النهائية للمناطق التي تحت سيطرة النظام، ومن دون معرفة التنازلات التي ستُقدّم، باعتبار أنّ هناك لاعبين دوليين وإقليميين لن تمرّ التسويات من دون تأثيرهم.
وحدة الأراضي السورية عنوان جميل غاوٍ، عزيز، حلم معظم السوريين، الذين لديهم ذاكرة نمت وتراكمت في بلاد اسمها سورية، بعيدًا عمّا كان عليه الوضع، وأدّى، في بعض مناحيه، إلى انتفاضة الشعب من أجل حريته وكرامته، قبل أن تتقسم وينقسم شعبها وتصبح مناطق نفوذ وسلطات أمر واقع، ويصير جزءٌ كبيرٌ من الشعب السوري خارج الحدود. وغالبية هذا القسم يعيش وينجب الأبناء في المخيمات، محكوماً بظروف عيشٍ لا تليق بكرامة الإنسان، ولا تقدّم ما يضمن للفرد أن يكبر وينضج وتتشكل شخصيته الفاعلة في الحياة، إذ ليس غائباً عن الوعي واقع أبناء المخيمات، والأطفال المحرومين من حقوقهم، من غذاء وتعليم ورعاية صحية وعلاج، إذا أغفلنا الجوانب الترفيهية الضرورية لأجل النمو الروحي والتوازن النفسي للطفل، مع الإشارة إلى الانفجار في عدد الولادات في المخيمات، والتي تقدّر بمئات الآلاف، وقد قصّرت كل الجهات المعنية برعاية هذه الشرائح من الشعب، في توعيتها وتثقيفها، لضبط الزيجات المتعددة والولادات الكثيرة التي تنتج أطفالًا يتكدّسون ليلاً بعضهم فوق بعض في الخيم، ويملأون الفراغات بين هذه الخيم في النهار، يخترعون أساليب لهوهم ولعبهم تحت رحمة الظروف المناخية القاسية، خصوصا في الشتاء والبرد والأمطار.
لو تمعّنا في الجيل المتشكّل في ظل هذه الظروف، وعلى مدى 12 عامًا، في كل المناطق بين الداخل والخارج، بين مخيمات لجوء في الجوار ونزوح في الداخل السوري، وفي الجيل المتشكل في الداخل تحت سلطات الأمر الواقع، بين نظام وغيره، لرأينا أن هذا الجيل بما راكم من ذاكرة وتجارب، وبما حُقن من أفكار وضخ عقائدي أو أيديولوجي، وأفكار عنصرية كارهة للغير، من دون إغفال نقمته على وضعه، وبعدم قدرته على وضع أهداف لحياته، ليس لأنه لا يريد، بل لأن ظروفه حكمته، لو تمعنّا وبحثنا عن صورةٍ مشرقةٍ في إمكانية حملهم مسؤولية البناء المستقبلي، لتملّكنا القلق والخوف.
منطق التاريخ هو الحركية، يعني التغيير، فالتغيير لا بدّ أن يحصل، وقد حصل بطرق متنوعة في سورية، جلّها نحو الأسوأ. لكن حتّى يحدث التغيير نحو الأفضل، فإنّ المراهنة تكون دائماً على الأجيال الشابة ودورها الفاعل في صناعة المستقبل، فأيُّ جيلٍ جديد هو الذي نأمل منه إحداث التغيير؟
من القضايا الإشكالية أنّ هناك فجوة بين جيل قديم استهلك أيّ إمكانية للخروج من القوالب الفكرية الجامدة والمعيقة للتقدّم، تجلّت مقوماته في أعتى صورها في الأداء السياسي الذي ساهم، بدرجة كبيرة، في انهيار طموحات الشعب ومشروعه وأحلامه، وجيل جديد كبر ونما معظمه في ظروفٍ تفتقر إلى مقومات الحياة، بشقيها الجسدي والفكري، نتيجة الأوضاع التي خلفتها الحرب، فمن هو الجيل المتوقّع منه أن يباشر البناء، قبل أن نسأل عن إمكانية التأسيس للخطوة الأولى في بناء الديمقراطية، على مستوى المجتمع قبل الدولة؟ وكم من السنوات يلزمنا من أجل ترتيب حياة الشعب وفق المعطيات الجديدة، وجعلها قابلة للبقاء، والمضي إلى الأمام، قبل أن يبدأ العمل على هذا المشروع؟
ليس من الغريب أنّ توقّع أن يحمل الجيل الجديد، بغالبيته، علامات تغيّر جسدية، كتراجع علامات النمو قياساً بالمرحلة العمرية، أن نرى أفراداً ذوي بنية جسدية ضعيفة، وبالتالي قدرة أقل على العمل والإنتاج، كذلك، فإن نقص التغذية سوف يؤدّي إلى تراجع في القدرات الذهنية، عدا عن أنّ مئات الآلاف من الأطفال ممن كانوا صغاراً في بداية الحرب، ومن المواليد الذين يزداد عددهم بكثافة، برغم الظروف غير المناسبة، يعيشون بالحد الأدنى من الطعام، ومن دون الحد الأدنى للراتب الغذائي الذي يحتاجه الطفل لينمو، كذلك جيل الشباب في الداخل، إذ باتت الحالة المعيشية لأكثر من 90% من الشعب تنزلق تحت خط الفقر، ما يعني أنهم يعيشون على حافّة الجوع، وما ينجم عنه من فقر دم، وفقر مخيّلة.
هل يكفي بناء مخيمات أسمنتية تُؤوي المبعدين من أماكن اللجوء والمخيمات في دول الجوار، وفي مناطق النزوح، حتى نقول إن مشكلة الشعب قد حُلّت؟ أم أنّ إعادة المهجّرين تستوجب خططاً متكاملة من أجل تأمين بنية تحتية وخدمات ومدارس ومراكز صحية ومستوصفات، وإيجاد فرص عمل كضرورة ملحّة، بالتوازي مع تكثيف الجهود وجعلها حثيثة من أجل تأهيل هذا الجيش من الأطفال والشباب، كي يكونوا قادرين على الفعل والعيش في العصر، جيل كبر بعيداً عن التعليم التقليدي، فكيف بالتعليم في ظل الثورة الرقمية التي صار من لا يعرف التعامل مع أجهزتها وأدواتها أمّياً بمعنى الكلمة؟
الهدم سهلٌ وسريع، ولا يحتاج أدوات كثيرة، والحروب من أكثر الأدوات فاعلية وكفاءة في الهدم، ليس فقط تدمير البنيان والحجر، بل تدمير المجتمعات والشعوب، وزرع أسباب صعوبة اجتماعها مرّة أخرى، وهذا ما جرى في سورية، لكن البناء عملية أصعب وأطول أمدًا، ما يعني أن هناك جسرًا زمنيًا بين التسويات التي يجرى الحديث عنها والتحضير لها، والمباشرة في تنفيذها، وبين وصول المجتمعات السورية المنتظرة إلى حالة التقارب وردم الخنادق التي حُفرت بعضها في وجه بعض، واستصلاح كثير من “الأراضي المحروقة” في ما بينها، ما يخوّلها تحمّل مسؤولية البناء. ومن المرجّح أن يمتدّ هذا الجسر الزمني ويطول، فلن يكون البناء بعد مدة قصيرة، مثل ما كانت الحرب، فعقدٌ ليس طويلاً في عمر الشعوب، بالرغم من كثافة التدمير الذي وقع، والفواتير التي دفعت في هذه الحرب، لكنّ عقوداً ستمرّ بينما الوطن السوري، المتخيّل، يحبو قبل أن يستطيع النهوض على قدميه. تحمل أجيال الحرب، في غالبيتها، ذاكرة ليست فيها فكرة واضحة عن معنى الوطن، ولا عن معنى سورية الموحّدة، فحياة المخيمات والقهر والعيش المؤقت، بينما العمر يُستهلك في الانتظار بلا طموح، لا تنشئ تصوّراً عن كيفية تشكّل الأوطان، وكيف تُبنى الدول، وكيف تستقيم حياة مستدامة. وفي النهاية، لا تعرف غالبية هذا الجيل معنى الديمقراطية التي طمح إليها معظم الشعب في بداية انتفاضته، لا أرغب في إشهار صورة قاتمة، إنما هي أسئلة مؤرقة في البال، فيما لو كان المنتظر هو تسويات فقط، من دون الحلّ الشامل.
المصدر: العربي الجديد