لم يكن من الصعب التنبؤ بالهدف الاستراتيجي لشركاء مسار استانة الثلاثة، موسكو وانقرة وطهران، وهو اخراج واشنطن من سوريا، ما يتيح لهم تحقيق أهدافهم: تفرض موسكو هيمنتها الجيوسياسية في سوريا والإقليم، وتتخلص تركيا من مشكلة الاقليم الكردي الناشئ، ويتحرك قاسم سليماني على كامل الجغرافية السورية كأنه في منزله. هذا، وقد بلغوا هدفهم، يبدو أنهم قاب قوسين أو أدنى من الانتقال إلى المرحلة التالية؛ فرض نظام جديد/ قديم في سوريا، يمثل مصالحهم كمنتصرين، لكن ماذا عن الخاسرين الكثر؟ وعن أحدثهم اليوم؛ أكراد سوريا.
وهم الدولة
لن يمضي وقت طويل قبل أن تتحول خريطة شمال وشرق سوريا التي حكمها الأكراد تحت المظلة الأميركية لبضع سنوات، إلى بكائية جديدة تُضاف إلى السردية الكردية العامرة بالمظالم والخيانات، سيكون عنوانها: لقد حكمنا هذا السهل الخصيب الممتد من دجلة إلى الفرات يوماً. لكن، ليس للكردي سوى الجبال!
إذا كانت “الروج آفات” ستغني التراث الكردي من دون شك، باضافة مهمة في الثقافة، إلا أنها على الاغلب ستكون محطة لا تدعو إلى كثير من الفخر بالنسبة لاداء الساسة والقادة الأكراد. وعندما سيمر الكردي بروج آفا، كما يمر العربي اليوم بالاندلس، سيرشقهم بتلك العبارة التوبيخية الشهيرة: “ابكوا كالنساء ملكاً لم تحافظوا عليه كالرجال”. الساسة الأكراد اخفقوا مرة أخرى في قراءة خريطة السياسة ورياحها، وفي استثمار الفرص التي سنحت لهم، لا بل حولوها إلى نكسات تعمق يأس واحباط جمهورهم وتدفعه إما إلى التشدد العدمي، أو النكوص عن الحلم القومي وربما التنازل عنه في نهاية المطاف.
قبلة الحياة الاميركية العابرة
في “السيرة” المختصرة للتجربة الكردية شمال شرقي سوريا يُمكننا القول إنها بدأت بإيعاز من نظام الأسد لحليفه القديم حزب “العمال الكردستاني”، الذي تخلى عنه حافظ الأسد نهاية القرن الماضي عند تسليمه عبدالله اوجلان لتركيا. إذ سمح النظام لمسلحي الحزب بالدخول إلى سوريا وانشاء قوة عسكرية، للضغط على تركيا من ناحية، ولمنع الأكراد من الانخراط في الثورة السورية العامة، وافقاد الثورة العنصر الكردي المهم والفعال وتجريدها من البعد الوطني الديموقراطي، وحصرها في كونها تمرداً “سنياً” ضد نظام حكم “علوي”. ما دفع بتلك الانتفاضة للتحول شيئاً فشيئاً إلى تمرد لجماعات دينية متطرفة، تستعدي كل دول العالم.
سارت الأمور بشكل معقول مع “وحدات حماية الشعب” الكردية، التي استأثرت بالبلدات والمدن ذات الغالبية الكردية، وتولت مسؤولية حماية حقول النفط لصالح نظام الأسد، الذي منحهم جزءاً وافراً من العائدات. واستمر ذلك حتى ظهور تنظيم “داعش” في المنطقة في العام 2014، وتوجهه إلى المناطق الكردية الغنية بالنفط لانتزاعها، وسط ترحيب النظام السوري من جهة، ورضا الأتراك من جهة أخرى، وقبول السكان العرب المجاورون للأكراد في الجزيرة من جهة ثالثة، بعد قيام “وحدات الحماية” باستفزازهم في مواضع متعددة.
كادت مناطق سيطرة “وحدات الحماية” أن تسقط وتنتهي، لولا أن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، قرر التدخل واتخاذ الطرف الكردي حليفاً، بعدما فشل تحالفه مع فصائل الجيش الحر، او تم افشاله عنوة من طرف تركيا.
وتمكنت “قوات سوريا الديموقراطية”، الاسم الجديد لـ”وحدات الحماية” الكردية، تحت مظلة كثيفة من الطيران الاميركي، من تحقيق الانتصار على تنظيم “داعش”، من كوباني إلى الباغوز. ومنحتها وسائل الاعلام العالمية، المبتهجة بالنصر على التطرف الإسلامي، جرعة “افيون اعلامي”، فتخيل القادة الأكراد تحت تأثيرها، بأنهم حازوا دولة أو شبه دولة، وبأنهم اصبحوا حكاماً على أرض و”شعوب” وموارد، ويتمتعون بتحالفات دولية مع أقوى دول العالم، وبأن ذلك سيمكنهم من التفاوض مع الجميع من موقع يضمن لهم في أسوأ الأحوال اقليماً يحكمونه، وينطلقون منه لتحقيق بقية المشروع الكردي التاريخي ودعمه، خاصة في تركيا.
ولكن ذلك كان سراباً، بعد أشهر قليلة من اندحار “داعش”، وانتهاء الدور الوظيفي لمسلحي “وحدات الحماية”، وتخلي الرئيس الاميركي دونالد ترامب عنهم بوقاحة غير مسبوقة، ليواجه الساسة الأكراد الحقيقة العارية؛ “دولتهم” حدث مرتبط بـ”الدولة الإسلامية”، ظهوراً وزوالاً، وإن الدور الوظيفي الذي اسنده لهم نظام الأسد أيضاً قد انتهى بانتهاء الثورة السورية فعلياً من وجهة نظره، وهو ما شاركوا بإنجازه بفعالية ايضاً، ولم يعد لهم من استخدام ممكن سوى كونهم تلك الشوكة التي تقلق راحة تركيا إذا ما شاء بوتين أو الأسد او خامنئي ابتزازها، وهو ما يتم تكييف اكراد شمال سوريا لأجله اليوم.
هل كان بإمكان الأكراد أن يتجنبوا هذا المصير؟
إن ما ستؤول إليه الأحداث في شمال شرق سوريا سيكون على الأرجح استيلاء نظام الأسد مجدداً على المنطقة، وتجريد الأكراد من مناطق نفوذهم بالتدريج، مقابل وعود ومزاعم سياسية بمنحهم حقوقاً دستورية معترفاً بها، تنتهي بإلقاء السلاح بالكامل، وعودة كوادر قنديل إلى مواقعهم السابقة، لمعاودة الاستفادة منهم في مناسبة أخرى، مصير مشابه لما آل إليه قادة تنظيم “داعش” سابقاً، وما سيؤول إليه تنظيم “القاعدة-جبهة النصرة” لاحقاً.
جمهور “العمال الكردستاني” في البلدات الكردية الحدودية، سيهجر المنطقة، خاصة النخب التي انخرطت في التجربة الاخيرة، شأن نشطاء الثورة السورية الاوائل، ومن سيبقى منهم سيعيش في حالة اغراق سكاني، واضطهاد متعدد الأطراف، كما الوضع القائم اليوم في مدينة عفرين.
هل كان بإمكان القيادة الكردية تلافي هذه النهاية المريرة في السرديات السورية؟ بالطبع كان بإمكانهم ذلك، كما كان بإمكان من سبقوهم إلى المصير ذاته أن يفعلوا، وذلك ببساطة باللجوء إلى الطرف الأقوى والابقى في القضية السورية؛ “الشعب السوري”، مع ضبابية المفهوم والاختلافات حوله. ولو شئنا أن نكون أكثر تحديداً وسياسوية، فإننا نقول لو أن النخب الكردية منعت نفسها من الوقوع تحت تأثير “المخدرات” الإعلامية، ورأت بشكل واقعي حجمها المحلي في شرق الفرات، وحده، وحجم المكون العربي المستعد للانخراط معها في نضال وطني حقيقي، وقدمت ما يتوجب عليها لبناء الثقة، لما وقف الأكراد وحدهم في وجه العاصفة التركية، ولا في مواجهة ضغوط نظام الأسد وموسكو، ولقدموا ارقى نموذج في هذه المرحلة، ووقفت إلى جانبهم معظم المعارضة السورية المؤثرة، والقوى العربية في الاقليم، ولتشجعت القوى الإقليمية ودعمتهم على أساس إنه النموذج الخلاصي للقضية السورية، ولما تم التعامل معهم كجماعة اثنية محلية، سواء كانت مضطهدة او غير مضطهدة.
لكن الساسة والقادة الاكراد لم يشذوا عن القاعدة في الحالة السورية، والعامة في حالة المجتمعات المتأخرة في المنطقة، فاستحوذت فئة منغلقة على ذاتها، من كوادر قنديل، على السلطة الكاملة، وحرمت منها الأكراد غير الموالين لها، والعرب الذين يمثلون الغالبية المطلقة من السكان. وكما فعل نظام الأسد وغيره تم استخدام بعض المرتزقة من هذه المكونات لتزيين المشهد هنا وهناك، مع عجز تام عن الوصول إلى العمق الاستراتيجي لهذه المجتمعات، ناهيك عن الارتقاء إلى مفهوم وطني أو انساني ديموقراطي حقيقي، وفرضت صور وتعاليم اوجلان بطريقة لا تختلف قيد انملة عن الطريقة التي يفرض بها أعدى خصومها رموزهم؛ النظام القومي التركي ورمزه اتاتورك، والنظام البعثي ورمزه حافظ الأسد وولديه. “العمال الكردستاني” لم يكن إلا صدى باهتاً لمضطهديه بالذات.
أي مستقبل؟
لن يغيب الوجود الكردي عن شمال سوريا بين ليلة وضحاها، لكنه سيبقى وجود “اقلية” تعتاش على هذا الوضع المميز الذي تتمتع به أقليات أخرى كثيرة في سوريا. فموقع الأقلية المميزة، أو الأغلبية الثانية، التي تقف في وجه الأغلبية السنية المطلقة، سيبقى محجوزاً للطائفة العلوية، وربما يكون هذا سبباً آخر لتدهور حالة الأكراد مستقبلاً. فنظام الأسد يبحث عن أقليات تحتمي به، لا أن تنافسه على الموقع الفريد، وهو ما سيفاقم معاناة الأكراد بطرق مختلفة.
لكن مع كل ذلك التشاؤم والمؤشرات الظاهرية السلبية، ثمة مؤشر غير منظور يتقدم ويتصاعد في الخفاء، وسيفرض نفسه يوماً ما بقوة التجربة والخطأ، وعلى الجميع دفعة واحدة، وسيكون مفيداً لو ان النخب السورية تستوعبه مسبقاً، ومنها النخب الكردية. عنوان هذا المؤشر “سقوط الأفكار اللبنية” المتمثلة في هذا الكم الكبير من الأوهام التي تعتنقها شعوب وجماعات المنطقة، عن ذاتها وعن الآخر، بالوصول إلى قناعة باستحالة إلغاء الآخر أو تهميشه. فعلياً، ما كان بالإمكان أن تسقط تلك الأفكار “اللبنية” لولا كل هذه الحروب.
المدن ٢٤ تشرين اول/ اكتوبر ٢٠١٩