جسر: متابعات:
بعد نجاح كتابه “بغداد: مدينة السلام، مدينة الدم” (2016)، يطلق البريطاني، جوستن ماروتزي، مؤلفه “إمبراطوريات إسلامية” متوقفاً عند 15 مدينة، معظمها عربية، لتتبع تاريخ القرون الـ15 للحضارة الإسلامية. لكن الكتاب لا يكتفي بالماضي، فكاتبه زار كل تلك المدن، ما يضفي مسحة من المصداقية على رواياته عن الماضي، ويمنحه فرصة للمقارنة بين زمنين.
تُصنّف كتب ماروتزي في مكتبات بيع الكتب ضمن المؤلفات التاريخية، وفي أحيان أخرى يشار لها بوصفها من أدب الرحلات، أو من أدب الرحلة التاريخي، أي مزيج من الاثنين، يُقاطع حركة في الزمن إلى الوراء مع انتقال في الجغرافيا. فالعولمة التي جعلت كل المدن تشبه بعضها، بشكل أو بآخر، لم تترك الكثير للرحالة ليحكوا أو يكتبوا عنه اليوم. فأضحى التنقيب في طبقات التاريخ وراء الظاهر على السطح هو المهمة الوحيدة الباقية. لكن الرحلة التاريخية ليست صنفا جديدا بالطبع، فالعصر الرومانسي لأدب الرحلة في بريطانيا على سبيل المثال، كان محوره الخرائب الإيطالية، ما تبقى من الماضي ويجب استعادته. وسارت الاركيولوجيا يدا بيد مع الأنثروبولوجيا حين تعلق الأمر بالعالم المستعمر، وبدت الرحلة كسفر دائم نحو الماضي، وإلى جانب الآثار، نُظِرَ للسكان دائماً كجزء من طفولة العالم، صورة للغرب في عصوره المبكرة، براءته وبربريته.
مستشار
لا يبعد ماروتزي كثيرا عن صورة المغامر الأبيض الرومانتيكية، فهو بالإضافة إلى كونه صحفيا عمل في “بي بي سي”، و”فايننشال تايمز”، ومؤرخ وكاتب ورحالة، فقد عمل كـ”مستشار” لدى عدد كبير من الشركات الأمنية في المناطق الأكثر اشتعالا في العالم، من أفغانستان إلي الصومال مرورا بالعراق، وحظي بخبطات صحفية مع قادة المجاهدين الأفغان، وكتب كتابه الأول عن عبور الصحارى الليبية على جمل، وعمل مستشارا لدى الرئيس الصومالي، وخُطف من قبل جماعة إسلامية مسلحة، وكاد أن يخطف مرة أخرى واحدة على الأقل، ولديه كتيب إرشادي على الانترنت عن كيفية البقاء على قيد الحياة في الأسر، ولديه قصص مثيرة عن النساء في الشرق الأوسط، واحدة منها عن فتيات القاهرة المحجبات وهن يمارسن الجنس الفموي خفية في السيارات على نواصي الشوارع المظلمة. ولا يختلف ماروتزي كثيرا عن سابقيه في مركزيته الأوروبية، فكتابه “رحلات مع هيرودوت” (2008) والذي يقدم سيرة ذاتية للمؤرخ اليوناني، يحمل عنوان آخر هو، “الرجل الذي اخترع التاريخ”، ويتتبع الكتاب رحلات هيرودوت، المعروف أيضا بـ”أبي الأكاذيب”، من تركيا الحالية إلي مصر، دون أن ينتبه كاتبه إلى أن تدوين التاريخ كان قد بدأ قبل هيرودوت بعشرات القرون على الأقل، ودون أن يتوقف عند المفارقة الساخرة في قناعة بطله اليوناني التي خرج بها من رحلاته الكثيرة: كل شخص يظن أن ثقافته هي الأفضل.
الحريم والغلمان
لكن “إمبراطوريات إسلامية”، يكشف إعجاب كاتبه بتاريخ المجتمعات الإسلامية، وماضيها الإمبراطوري تحديدا، ويكشف عن تعاطفه مع الوضع المأسوي لتلك المجتمعات اليوم. بين قصص المذابح الدموية المبالغ فيها، والروايات الجنسية المثيرة عن الحريم والغلمان، يمدح ماروتزي أعمال الترجمة في العصر العباسي، ومساهمات الفلاسفة والعلماء المسلمين في أكثر من عصر، ويتحدث باستفاضة عن التعايش الديني والإثني في دمشق الأموية، في مقارنة متعمدة مع الحرب السورية الجارية. لا يختلف ذلك كثيرا عن الحنين إلى “الخرائب الإيطالية” في الماضي، يتفادى ماروتزي النظر في الدور الذي لعبته “الشركات الأمنية” التي يعمل لصالحها في تدمير بغداد، وفي تحولها إلى “مدينة الدم”، كما يسميها. لا يقدم المغامر الأشقر، أي تحليل نقدي للفرق بين الماضي والحاضر، ويكتفي بإعلان غرامه بالإمبراطوريات، البائدة والتي يعمل لصالحها اليوم.
المدن 30 آب/أغسطس 2019