عبد الناصر العايد
تتصاعد الأعمال القتالية في الضفة الشرقية لنهر الفرات، منذ تفجرها قبل نحو شهر، بين قوات سوريا الديموقراطية والمقاتلين الذين يطلق عليهم اسم قوات العشائر العربية. وتتخذ التطورات شكل عمليات يومية ضد المقار العسكرية والمصالح المدنية التابعة لقسد وضد منتسبيها العسكريين والمدنيين. كما تتطور في اتجاه اتخاذ قواعد دائمة للعمل على شكل مقرات سريّة ومخازن أسلحة وغرف عمليات وغيرها من البنية التحتية اللازمة لشن عمليات روتينية منتظمة تجعل الحياة أكثر صعوبة وفوضوية في تلك المنطقة ومناسبة للحركة العسكرية والأمنية، وبالتالي تنفيذ المزيد من العمليات حتى الوصول إلى القاعدتين الأميركيتين الوحيدتين هناك في حقل العمر ومعمل كونيكو، واللتين يُعدّ إجبار القوات الأميركية على إخلائهما الهدف الاستراتيجي لمجمل التحرك، لأن ذلك يفتح الطريق أمام المهاجمين نحو حقول النفط والغاز وصولاً إلى تخوم الحسكة وما بعدها.
كان هناك نقد شديد وسخط من أبناء القبائل عندما جرى الحديث عن دعم من إيراني ومن جانب قوات النظام، لما سمّي بثورة العشائر. لكن، بعد مرور شهر، والتأكد من تدفق المقاتلين والأسلحة من ضفة الفرات الغربية وعدم ظهور قادة ومقاتلين معروفين من أبناء المنطقة في الساحة، لم يعد إنكار صِلة غرب الفرات بما يحدث شرقها ممكناً، بل بات من البديهيات بالنسبة للسكان المحليين الذين ينتظرون نتائج هذا الصراع بقلق.
كما ذكرنا في مقالات سابقة هنا، فإن لإيران مصلحة استراتيجية في هذه المعركة، تتمثل في هزيمة واشنطن من خلال مليشياتها وبكلفة منخفضة مادياً وبشرياً. فالأسلحة المستخدمة تكاد تكون بلا قيمة، والأموال التي يتم إنفاقهان يُحصّل الجزء الأكبر منها من صناعة وتجارة المخدرات المزدهرة. أما المقاتلون والضحايا، فهم إما سكان محليون أو مليشيات مجلوبة من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان. وما على الإيرانيين من ضباط الحرس الثوري، سوى قيادة وإدارة الصراع من غرف عملياتهم وتنفيذ قرار قيادتهم بالقتال بهذا الإيقاع اليومي الذي لا يهدأ حتى يصل الطرف الآخر إلى نقطة الانهيار والانسحاب من المواجهة.
تتسبب لهفة الإيرانيين للاستئثار بالنصر في شرق الفرات، بمشاكل مع قوات النظام والحليف الروسي. وانعدام التنسيق أعاق أحياناً تقدم العمليات، لكنها لا تتوقف أبداً وما زالت قوات النظام تشارك في هذه الجهود بقوة. ودخلت روسيا على خط المنافسة، فأوفدت رجلها الأول في سوريا، العميد سهيل الحسن، ليشارك في الإدارة الميدانية للهجمات ومحاولة وضع حد للاستئثار الإيراني بالعملية ونتائجها السياسية ومكاسبها الاقتصادية وعلى رأسها حقول النفط.
ويبدو الأمر اليوم في غرب الفرات كما لو أن مضخة عملاقة بتغذية قوية، تضخ المقاتلين والأسلحة إلى شرقه، وحساباتها تتجاوز الأيام والأسابيع، والإمكانات المتوافرة تكفي لأشهر وسنوات، وإرادة القتال لفترة طويلة جداً متوافرة ايضاً لدى الأطراف كافة: روسيا وإيران والنظام السوري، وحتى تركيا التي تدخلت أيضاً وسمحت لمقاتلين من أبناء المنطقة على أراضيها بالعودة والاشتراك في تلك المعركة ضد قوات سوريا الديموقراطية التابعة لخصمها اللدود حزب العمال الكردستاني.
في ظل هذه المعطيات الجيوسياسية الدولية للصراع، يغدو موقف واشنطن حاسماً، وهذه تبدو حتى اليوم عازفة عن الانخراط الجدي في القتال الذي يريد الآخرون جرها إليه وإشغالها به. ووفق معلومات عالية المصداقية، فإن القوات الأميركية أبلغت قوات سوريا الديموقراطية بأن عليها أن تتدبر أمرها في مواجهة الهجمات الآتية من شرق الفرات، وأنها لن تضرب لا من الجو ولا من الأرض أهدافاً يختلط فيها السكان المحليون مع المقاتلين منعاً لأن تتسبب في خسائر مدنية تزيد سمعة قواتها سوءاً، كما أنها لن تنشر جنوداً خارج قواعدها المحصنة وتعرضهم للقتل. كما لن يقصف الأميركيون المليشيات الإيرانية في شرق الفرات، فيهيجون عش الدبابير المتمثل بالمليشيات الإيرانية المنتشرة في كامل الشرق الأوسط، ضد قواتها ومصالحها، بما قد يقود إلى مواجهة كبيرة تعتبر إدارة بايدن أن لا مبرر للتورط فيها قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويفضل الأميركيون، وفق المعلومات لدينا، تسليم قاعدَتي العمر وكونيكو للقوات الكردية ما إن تظهر بوادر خطر جدّي على حياة الجنود الأميركيين المتمركزين فيهما والانسحاب شمالاً. أما تقدير ذلك الخطر، فرهن بقدرة قوات سوريا الديموقراطية على إبقاء الاشتباكات مع المليشيات الإيرانية وغيرها بعيدة عن قاعدتيها من أجل بقائها في مأمن من هجوم أو اقتحام مفاجئ.
وخلافاً لرغبة واشنطن، قالت القيادات الكردية المتحالفة معها في شرق سوريا، على نحو متكرر وعلني، إنها لن تقاتل إيران، لكنها اليوم مضطرة لدفع ثمن ذلك القرار، ليس فقط بمحاربة إيران بشكل مباشر ولوحدها، بل وأيضاً حراسة القوات الأميركية من أي هجوم إيراني!
إلى ذلك، تخلت “قسد” عن حلفائها المحليين الذين يجيدون العمل في الشبكات العشائرية المعقدة من داخلها، والتي ما كان بإمكان القيادة الكردية أن تبسط سيطرتها على منطقة القبائل من دونها. وهي، بعد حلّ مجلس دير الزور العسكري المكون من أبناء المنطقة واعتقال قادته، لم تسعَ إلى تكوين بديل جدّي له، بل أبرزت وجهها الكردي المتعسف والمستفز، مؤكدة سردية الطرف الآخر القائمة على كونها قوات احتلال، وأن قادتها غزاة جاءوا من جبال قنديل، وهو سبب كاف لتأجيج المقاومة وتصعيدها، فيما ستعاني قسد بشدة في المرحلة المقبلة لأن خصومها تمكنوا من انتزاع الأوراق المؤثرة من يدها واستخدامها ضدها.
لكن ثمّة بقايا ضوء في آخر هذا النفق، وهو أن السكان المحليين ما زالوا يعتبرون “قسد” أفضل السيئين، وهم يفضلونها بالتأكيد على إيران وقوات النظام، لكنهم لن يقدموا على أي تعاون إذا أمعنت قيادتها في التعامل معهم بأسلوبها الحالي الذي لا يختلف عما يمارسه النظام وإيران. وتحديداً، تلك الطريقة التي يجري بها تجاهل السكان وإنكار وجودهم وإرادتهم، وعدم الاعتراف بحقهم في إدارة شؤونهم واختيار قياداتهم. فإن لم يتغير ذلك كله ويُترجم بأفعال ملموسة وواقعية، لن تشهد الأيام المقبلة سوى انصراف المزيد من السكان المحليين عن “قسد” لصالح خصومها، بل وتخلي منتسبيها العسكريين والمدنيين عن العمل معها والذهاب في الاتجاه الآخر… إذ ما الذي سيجعل شخصاً محلياً يفضل مقاتلي حزب العمال الكردستاني على المليشيات الإيرانية؟ وما الفرق بين عميل للإيراني وعميل للكردي؟!
المصدر: المدن