عبد الناصر العايد
نشرت “قوات سوريا الديموقراطية” مؤخراً، تسجيلاً مصوراً لاعترافات مجموعة أشخاص تابعين/مأجورين لتنظيم “داعش”، نفّذوا عمليات ومحاولات اغتيال وتفجير في منطقة شرق الفرات، خلال نصف السنة المنصرم. وبتحليل ودراسة الاعترافات -في حال كانت صحيحة ودقيقة- أن التنظيم قد تلاشى عملياً، ولم تعد لديه قوة أيديولوجية ولا اقتصادية ولا منظومة عسكرية أو حتى أمنية، في تلك المنطقة التي كان قد استوطن فيها واخترقها بعمق، وصار يستأجر أشخاصاً لتنفيذ عمليات تذكر به وتبقيه في التداول الإعلامي.
في الفيديو المشار إليه، يعترف المتهمون بالقيام بنحو عشر عمليات، هي معظم العمليات المبلّغ عنها في منطقة شرق الفرات خلال النصف الأول من هذا العام، أي أن التنظيم اعتمد عملياً على هذه الخلية الوحيدة في نشاطه الأمني، وهذا يفيد بانحسار هائل، ليس في أنشطة التنظيم فحسب، بل بانتشاره، وعدد بؤره وخلاياه العاملة والنائمة.
الخلية التي قُبض عليها ليست من سكان منطقة شرق الفرات، بل من غربه، ويعيش معظم أفرادها في مخيم للهاربين من نظام الأسد، أقيم في إحدى قرى ريف دير الزور الغربي، ويوصف بأنه الأسوأ لناحية الخدمات والمساعدات التي تقدم لقاطنيه، حيث ترتفع البطالة بين سكانه إلى الحدود العظمى. وتهمّش “قوات سوريا الديموقراطية” وذراعها المدنية، العائلات وجيل الشبان الذين يعيشون فيه من ناحية الوظائف والمهن، نظراً لكونهم نازحين من مناطق أخرى، وهو الأمر الذي يعمق أزمتهم بعدما ابتعدوا عن مصادر رزقهم الأصلية، المتمثلة في الأراضي الزراعية وسواها. وبالتالي فإن مشاعر التهميش النسبي غالباً ما تهيمن على أمثال هؤلاء وتدفعهم لارتكاب الأعمال العنيفة، خصوصاً إذا ما كانت مقترنة بعائد مادي، وبالتالي فإن أيديولوجيا التنظيم الأصلية ليست هي ما دفع هؤلاء للقيام بتلك العمليات، بل القهر والحاجة وانعدام الاهتمام من السلطة القائمة، وربما تنمرها عليهم.
يؤلف شبان صغار ومراهقون تحت سن الثامنة عشرة، غالبية أعضاء تلك الخلية، وهؤلاء كانوا أطفالاً عندما كانت التنظيم يسيطر على المنطقة قبل العام 2019، وليس من المحتمل أنهم تعرضوا لعملية أدلجة الى الدرجة التي تدفعهم إلى القيام بأعمال خطيرة كهذه، علاوة عن تلقي التدريب العسكري والأمني. وإذا كان هذا هو حال منسوبي التنظيم، أو ما تبقى من المتعاطفين معه، فإن التنظيم في طريقه إلى التحلل الكامل، ومَن بذلوا جهوداً لتربيتهم وتدريبهم، إما قتلوا أو اعتقلوا أو انفكوا عنه، وبات بلا زخم عقائدي مؤثر أو قوة بشرية قادرة على إحداث التأثير القسري.
تُظهر اعترافات أعضاء الخلية أنهم كُلفوا بالقيام بأي عملية قتل ممكنة لأي منتسب لـ”قوات سوريا الديموقراطية” أو إداراتها المدنية، وأنهم قاموا بهذه العمليات من دون تمييز أو تخطيط معمق، وكان استهدافهم سطحياً وبلا تأثير، ومنها ما جرى فيه استهداف أشخاص يرتدون سترة عسكرية على أمل أن يكونوا من عناصر “قسد” من دون التحقق من ذلك، ويبدو أنهم كانوا تحت ضغط من الجهة الممولة للقيام بأي عملية أمنية تُنسب للتنظيم وتظهره حياً وفاعلاً.
تكشف المبالغ التي تقدم للخلية كمكافأة لعمليات القتل أو محاولاتها، تراجع قوة التنظيم الاقتصادية. فوفق المتحدثين، تمنح الخلية ما يتراوح بين 70 و100 دولار مقابل العملية الواحدة، وهذا مبلغ جيد في منطقة لا يزيد الأجر الشهري للموظف فيها عن عشرين دولاراً، لكنه ضئيل مقارنة بالخطورة والجسامة التي ينطوي عليها العمل وحجم فائدة التنظيم السياسية منها، وبما كان يدفع سابقاً لعمليات من هذا المستوى.
الضائقة المالية للتنظيم تقترن وتؤثر في قدرته على الاختباء والتواري. فأعضاء الخلية كُشفوا بسهولة على ما يبدو لعجزهم عن اتخاذ الاحتياطات والتمويه المناسب لأنشطتهم، مثل إنشاء أعمال أو مصالح كواجهات يتوارون خلفها، أو استخدام المركبات المناسبة للتنقل والفرار، أو استعمال وسائل اتصال مشفرة، وغير ذلك مما تعمد إليه التنظيمات المقتدرة في عملها الأمني.
اتضح من اعترافات المجموعة أن قائدها يقطن في مناطق شرق الفرات التي يسيطر عليها النظام السوري والمليشيات الإيرانية والروسية. وهذا، عدا أنه يثير تساؤلات حول صلة هذه الأطراف بالنشاط الإرهابي للتنظيم في مناطق السيطرة الأميركية، يكشف أيضاً أن قادة “داعش” الفعليين، ما عاد بإمكانهم التواجد والعمل الدائم في شرق الفرات، بسبب الانكشاف الكامل، وفعالية الإجراءات التي تقوم بها القوات الأميركية وحليفتها “قسد”.
مع ذلك، برزت في الأيام الماضية حادثة شغلت وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة وأثارت الكثير من الاسئلة، إذ عمدت مجموعة من الشبان إلى التظاهر في إحدى قرى شرق الفرات، تعبيراً عن الغضب من حادثة إهانة القرآن في السويد، ورفعوا بهذه المناسبة راية تنظيم “داعش” وتجولوا بها مخفورة بالأسلحة النارية. أصوات عديدة اتخذت من ذلك ذريعة للقول إن التنظيم ما زال حاضراً وبقوة، فيما برر بعض المقربين من القائمين بالمظاهرة ما حدث، وأن ما رُفع هو “راية العُقاب”، أي راية النبي محمد، وأن اتخاذها من قبل التنظيم رمزاً له، لا يعني أنه امتلكها، ولا يعني أن كل من يحملها هو “داعشي” بالضرورة.
وهذا يمكن أن يكون صحيحاً فعلاً، فهذا الفصل بين اعتبار التنظيم لا يمثل الإسلام والمسلمين، واستعادة ما استولى عليه من رموز وقيم أيديولوجية من قبل عموم المسلمين، قد يكون مظهراً آخر من مظاهر الاضمحلال، وليس علامة على استعادة التنظيم هيمنته وقوته. فكل عارف ومطّلع على الأوضاع الأمنية في المنطقة، لن يصدق في حال من الأحوال أن يظهر أعضاء التنظيم أو حتى المتعاطفون معه بتلك الصورة العلنية المستفزة وأن يكشفوا أنفسهم، في حين يُعتقل أو يُقتل كل مَن يشك بقربه أو اعتناقه لأيديولوجيته.
المصدر: المدن