عمر قدور
بسرعة كبيرة جداً، أعلنت أنقرة القبض على منفِّذة تفجير اسطنبول الذي وقع يوم الأحد، وأعلنت بسرعة أيضاً عن الإطار العام لاعترافات المتهمة التي تشير إلى مسؤولية حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري. الفضل بذلك، حسب الإعلان التركي، لكاميرات المراقبة التي رصدت الفاعلة وهي تضع المتفجرات في شارع الاستقلال، ثم تهرب من المكان. وهي، بموجب المعلَن، تلقت التدريب والتعليمات في كوباني، ثم انتقلت للتنفيذ باجتياز الحدود “تهريباً” إلى تركيا عبر عفرين.
السرعة التركية في توجيه الاتهام إلى الخصم التقليدي، حزب العمال الكردستاني، قد تُستغل لتقويض مصداقية التحقيقات، وصولاً إلى القول أن التفجير مفتعل من الحكومة نفسها. ونفترض أن حكومة أنقرة ليست بهذه الخفة، وحتى إذا كان الاتهام سياسياً في المقام الأول فإن توجيهه يعني وجود نوايا لاستغلاله. يلفت الانتباه، في أول المؤشرات، أن أنقرة على لسان وزير الداخلية رفضت التعزية الأمريكية بضحايا الانفجار، الرفض الذي يحيل فوراً إلى خلاف الطرفين المستفحل بسبب دعم واشنطن الفرع السوري لحزب العمال. قالها الوزير صويلو بوضوح: يجب التشكيك في تحالفنا مع دولة يرسل مجلس الشيوخ فيها الأموال إلى كوباني ومناطق الإرهاب الأخرى. في الإطار المتعلق بالناتو أيضاً يندرج الإعلان عن نية المتهمة المغادرة إلى اليونان، العدو التاريخي لتركيا، رغم أن هذا هو السبيل المعتاد لألوف المهاجرين الذين يقصدون أوروبا.
على أية حال، الاتهامات التركية هي ملزمة للحكومة التركية نفسها، قبل استثمارها خارجياً، لأن تفجيراً إرهابياً بهذا الحجم، وفي منطقة لها أهمية سياحية، ينبغي ألا يمرّ بلا تبعات. حرب أنقرة الدائمة على حزب العمال ليست بالعقاب الكافي في مثل هذه الحالة الاستثنائية الفاقعة، ومن المتوقع أن يكون الرد خارج المعتاد، وهو ما كانت تضغط أنقرة لأجله منذ شهور قبل طي الحديث عن عملية تركية ضد الحزب في سوريا.
الرسائل الخارجية التركية متعددة الوجهات، فهي أولاً لواشنطن التي عارضت عملية تركية جديدة ضد قسد، ولموسكو التي اتخذت موقفاً مماثلاً، وأعلنت لمرات عديدة أن حل المخاوف التركية يمر بالمفاوضات بين أنقرة والأسد. هنا أيضاً رسالة إلى الأخير، فالمفاوضات معه لم تثمر على صعيد ما تطالب به أنقرة، سواء لجهة عدم قدرته على لجم الخصم الكردي، أو لجهة عدم استغلاله العلاقات المخابراتية التقليدية مع بعض قيادات قنديل لتهدئة المخاوف التركية.
إذاً، المطلوب تركياً هو أن تتولى أنقرة بنفسها حماية أمنها الذي لا يراعيه اللاعبون الآخرون في سوريا. نقطة الضعف في هذا السيناريو أن المتهمة اجتازت أراضٍ تسيطر عليها فصائل معارضة تابعة لأنقرة، الأمر الذي يُضعف من فرضية قدرتها على ضبط أمنها بمزيد من التوسع على حساب قسد، إلا أن هذه الثغرة تقوّي مصداقية الاتهامات من زاوية أن مَن يفبركها لن يعجز عن تلافي ثغرة فاضحة من هذا النوع.
بخلاف سرعة أنقرة في توجيه الاتهام، تأخرت ردود الأفعال من الجهة الكردية، فنفى مظلوم عبدي على تويتر علاقة قسد بالتفجير، معبِّراً عن تعازيه للشعب التركي. كذلك نفت القيادة العامة للدفاع الشعبي”الجناح العسكري لحزب العمال” أية علاقة بالتفجير، وأصدرت بياناً يُسهب في هجاء الحكم التركي الذي، وفق البيان، يلجأ إلى هذه الأساليب بعد فشله في التصدي للنضال الكردي المشروع.
بعبارة أخرى، أتت ردود الأفعال الكردية ضمن المتوقع بناء على حوادث سابقة مماثلة، حيث يكون النفي قابلاً للتشكيك بما لا يقل عن الاتهامات التركية، ومن ذلك نفي استهداف المدنيين على الإطلاق، مع أن وجود حزب العمال الكردستاني على لوائح الإرهاب الغربية متصل بعمليات من هذا القبيل، حتى مع وجود البعد السياسي المحابي لأنقرة. عبارات من نوع “من المعروف للجمهور أننا لن نستهدف المدنيين بشكل مباشر، أو نوافق على الأعمال الموجهة ضد المدنيين” ليس لها صدى في أوساط الحزب نفسه، ونعلم بناء على حوادث مماثلة أن التفجير سيكون مناسبة للشماتة أكثر مما هو مناسبة لإدانة الأعمال الإرهابية بلا تمييز متعلق بهوية الجاني أو هوية الضحايا.
في أدنى مستويات رد الفعل التركي، قد تتعرض كوباني “وربما غيرها أيضاً” إلى قصف تركي انتقامي شديد جداً. وربما يكون إطلاق يد أنقرة، هكذا عن بعد، بديلاً مقبولاً عن عملية توسع تركي أخرى. قد لا تمانع واشنطن أو موسكو في ذلك، وقد تستغل الثانية التهديد التركي لإقناع الإدارة الذاتية بتقديم تنازلات للأسد، تحديداً فيما يخص سيطرته على الحدود.
كما صار معتاداً، سيدفع أكراد سوريا الثمن، ولا فائدة من هجاء عدوهم التركي، أو من نغمة التشكي من الحلفاء. قد يُستغل التفجير كذريعة، ولن يصعب على أنقرة إيجاد الذرائع حين لا يقدِّمها حزب العمال بسخاء. المسألة كما تطرحها أنقرة هي أنها تخوض حرباً داخلية على الأراضي السورية، وأكراد سوريا بمثابة خسائر جانبية للحرب بينها وبين حزب العمل الكردستاني “التركي”. وجهة النظر التركية لن تتغير، وسيبقى هدف القضاء على قسد والإدارة الذاتية الكردية قائماً، وإن تعثر مرات حتى الآن بسبب المظلة الأمريكية التي تحمي قسد.
من الجهة الأخرى، الأمر ليس بالضبط وبالضرورة كما هو رائج في أوساط مناصري حزب العمال، وفي أوساط كردية أوسع، على صعيد الاقتناع بأن الموقف التركي ثابت لا يتغير من ناحية العداء الأعمى للأكراد، وعليه لا مسؤولية كردية إزاء ما هو شبيه بالقدَر. يستطيع أكراد سوريا الشروع في التخلص من هذا العبء بدءاً من فصل معركتهم عن معركة الشقيق الأكبر في تركيا، بل المطالبة صراحةً بأن تُخاض تلك المعركة في مكانها، فلا تُفتح الجبهات على بعضها كما يفعل حزب العمال في سوريا، وكما يحاول جاهداً فعله في كردستان العراق.
لا يستطيع أكراد سوريا القبول بوصاية قيادات حزب العمال الموجودة في قنديل، ثم التهرب من دفع ثمن معركة هؤلاء ضد أنقرة، وإنكار ما هو مؤكد من تبعية قسد والإدارة الذاتية لقنديل سبب إضافي يطعن في مصداقية إنكار استهداف المدنيين. التخلص من عبء الشقيق الأكبر قد يخفف من الضغوط التركية التي تدفع بالأكراد إلى حضن الأسد كما عهدوا قمعه من قبل، وعدم العودة إلى الأسد مصلحة كردية وسورية. نعلم أن هذه النقلة لا يقدر عليها المغلوبون على أمرهم من أكراد سوريا، الأقدر عليها هو الشقيق الأصغر بالمعنى المباشر. يوماً ما كان مرشَّحاً ليفعلها مظلوم عبدي، ابن كوباني التي قد تدفع ثمن تفجير اسطنبول.
المصدر: المدن