مجرم يعفو

مجرم يعفو

مجرم يعفو

مجرم يعفو

مجرم يعفو

مجرم يعفو

مجرم يعفو

شارك

مجرم يعفو

مجرم يعفو

جسر: رأي:

بدايةً يجدر بنا أن نتذكر طوال الوقت أنه ليس من حق متهم “بأدلة قاطعة” بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية أن يكون في موقع الحُكْم والحَكَم، وأن يتعاطى العالم مع قرار “عفو” يصدره باللغة ذاتها التي يتعاطى فيها مع سلطة لم ترتكب تلك الجرائم. التشديد على أنه مجرم يعفو لا يجافي الواقع، ويؤكد على الفصل بين شرعية يُراد إعادتها للمجرم بمنطق القوة والقهر، وشرعية قانونية يُراد اكتسابها بالمنطق نفسه، لا بمنطق القانون وإنما بإثبات القدرة على الدعس عليه.

في أفضل الحالات، إذا أخلت سلطة الأسد سبيل معارض بموجب قرار ما، فإن التوصيف المطابق للواقع هو إطلاق سراحه، أو تحريره من الاختطاف كرهينة، أما استخدام كلمة عفو فهو من حيث الشكل والمضمون يضع الضحية في موقع المذنب، ويضع المجرم في موقع المعتدى عليه. لكن ما يفيدنا به حقوقيون أن القرار الذي أصدره بشار الأسد قبل يومين لا يشمل معتقلي الرأي، وما سُمّي عفواً ونال اهتماماً إعلامياً لا بأس به مكرّس للجرائم الجنائية، مع لفتة معتادة تجاه الفارين أو المتهربين من أداء الخدمة العسكرية.

ننوه بأن سلطة الأسد خلال حكم الأب والابن لم تعلن في أية مرة عن إطلاق سراح معتقلين سياسيين، وهذا ينسجم منطقياً مع إنكارها وجودهم، والمعروف أن الأب عندما كان يصدر قراراً من هذا القبيل “على ندرة تلك القرارات” يُذيّل القرار بفقرة تنص على عدم نشره بخلاف القرارات المتعلقة بالجرائم الجنائية والمدنية التي تُذيّل بفقرة تنص على نشرها في الجريدة الرسمية. السابقة التي تُسجّل في هذا السياق هو القانون 49 الصادر في عام 1980 عما يسمى “مجلس الشعب”، وينص على تجريم الانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين، والحكم بالإعدام لمجرد الانتساب إليها. أغلب الظن أن سلطة أخرى لم تصدر مثل هذا القرار، وكان صدوره بمثابة إعلان عن قتل كافة المعتقلين بتهمة الانتماء إلى الجماعة ما لم يثبت العكس.

ما يلفت الانتباه، خارج ملف الاعتقال السياسي، أن المنتمين إلى فئة “الأحداث” هم الأقل استفادة من القرار الأخير الذي أصدره بشار الأسد. إن أي سلطة تنظر بقليل من الإنسانية إلى الواقع كانت لتنظر إلى هذه الشريحة ممن هم دون سن الرشد بشيء من الرحمة، فلا تعاقبهم على جرائم أو جنح بأقسى مما تعاقب نظراءهم الذين تجاوزوا سن الرشد، بخاصة عندما يتعلق الأمر بأطفال ومراهقين عاشوا الظروف الاستثنائية للبلاد في السنوات الأخيرة، أو بالأحرى لم يعرفوا غيرها. يعلم السوريون، منذ ما قبل الثورة، أي سجون مزرية هي سجون الأحداث، وأنها مختبر لتعلم المزيد من الإجرام والانحراف، وما سيحدث تلقائياً بالنسبة للذكور منهم أنهم سيُساقون مع انتهاء محكوميتهم للخدمة العسكرية.

مع مستهل الثورة كان بشار الأسد قد أطلق سراح عشرات الآلاف من المجرمين الجنائيين، وهؤلاء أصبحوا فوراً القوة البشرية الأهم في جهاز الشبيحة، وكانوا جاهزين تلقائياً لممارسة كافة الأعمال القذرة من قتل وسطو وابتكار أساليب لا تخطر على بال. اليوم يُعاد السيناريو نفسه، فالذين ارتكبوا جرائم جنائية منذ “العفو” السابق هم بغالبيتهم من الشبيحة الذين لا يكترثون إن كان ضحاياهم من الثائرين على النظام أو من الفئات الأضعف ضمن مواليه، ولا يُستبعد أن يُعاد تدوير قسم كبير من المفرج عنهم ضمن ميليشيات الشبيحة. أي أن الغاية الأساسية من القرار هي إخراج مجرمي الأسد الصغار، ليعاودوا ارتكاب الجرائم الممنهجة بإشراف أجهزته لا لحسابهم الخاص.

لا نأتي بجديد على السوريين إذا قلنا أن لا مشكلة لسلطة الأسد مع مختلف الجرائم في حد ذاتها، بشرط أن تكون تحت رعايتها أو بمشاركتها مباشرة. استعانة الأسد بالمجرمين للتصدي للثورة لم تكن ابنة لحظتها، بل هي ضمن سياق من الفساد وعدم احترام القانون يجمع الطرفين، أو يجعل الشراكة حتمية بينهما. قد يكون مفيداً هنا التمييز بين طورين، فحافظ الأسد “أقله خلال عقد ونصف من بداية حكمه” كانت تستهويه صورة الديكتاتور الذي ينشئ نظاماً، وبالطبع لا يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم تحت شعارات براقة، لكنه لا يعتمد علناً العالم السفلي للجرائم الجنائية. هذا الحال تغير مع الوريث، والتغير أتى سابقاً على الثورة إذ ظهرت صورة السلطة المطلقة التي لا تكترث بصورتها، ومع اغتيال الرئيس الحريري وسلسلة الجرائم اللاحقة في لبنان راح يظهر داخلياً تغولها العاري، التغول الذي يذكّر بمافيات الجريمة المنظمة مع تفرعاتها من عصابات أصغر.

ما بقي ثابتاً خلال الطورين هو ذلك الاهتمام بالقوة العسكرية والمخابراتية، ورفدها بمزيد من الموارد البشرية بشكل متواصل. في الأصل، لا حاجة لبلد مثل سوريا لهذا العدد الهائل من الشبان الذين يُساقون إلى الخدمة العسكرية باستثناء استخدامهم لحماية السلطة عند اللزوم، وضمن هذا السياق لم تنقطع قرارات العفو عن الفارين أو المتهربين من أداء الخدمة الإلزامية. بعد الثورة والخسائر البشرية الهائلة التي منيت بها قواته والاستعانة بالميليشيات الشيعية، أصبح تعويض الموارد البشرية هاجساً لدى الأسد، بل صار التعويض مطلباً روسياً أيضاً ضمن سعي موسكو للإشراف على قوات توازن ثقل الميليشيات التي تشرف عليها طهران.

من المستغرب أن موضوع الجيش والخدمة الإلزامية في سوريا بقي من المحرمات، ونُظر إليه “وما زال يُنظر من قبل البعض” كبديهية غير خاضعة للتساؤل رغم وظيفته الوحيدة التي ظهرت منذ عام 2011. حتى الهجوم على الجيش من قبل أنصار الثورة تركز على دوره في قمعها، ولم يطاول بما يكفي الدور السيء لقيادات الجيش منذ الاستقلال، ولا الجريمة التي تُرتكب في تحويل من يؤدون الخدمة الإلزامية إلى أدوات تقمع شعبهم. مأساة اليوم أشد وضوحاً، فلدينا بلا مواربة مجرم “يعفو” عن أولئك المتهربين من الخدمة لتحويلهم إلى مجرمين، وبصرف النظر عن الميول السياسية للمعنيين “موالاةً أو معارضةً” فالنسبة الأعظم منهم لا تريد الموت لنفسها أو لا تريد التحول إلى قتلة. إننا مرة أخرى أمام مفارقة تصنعها اللغة الدارجة، فالمجرم الأكبر يعفو عن أبرياء بشرط قبولهم التحول إلى مجرمين صغار. هذه المفارقة لا يكفي لتبديدها سوى التفكير انطلاقاً من أن كل ما تفعله هذه السلطة، منهجياً وغريزياً، مطابق لطبيعتها، وإذا لم يكن جريمة بالمعنى المباشر فهو شروع بها.

المدن 17 أيلول/سبتمبر 2019

شارك