“مدنيّة” حقاً أم مشروع سياسي؟

“مدنيّة” حقاً أم مشروع سياسي؟

“مدنيّة” حقاً أم مشروع سياسي؟

“مدنيّة” حقاً أم مشروع سياسي؟

“مدنيّة” حقاً أم مشروع سياسي؟

“مدنيّة” حقاً أم مشروع سياسي؟

“مدنيّة” حقاً أم مشروع سياسي؟

شارك

“مدنيّة” حقاً أم مشروع سياسي؟

“مدنيّة” حقاً أم مشروع سياسي؟

عبد الناصر العايد

شهدت سوريا، منذ انطلاق ثورتها، توظيفاً سياسياً لكل المجالات والمفاهيم والبنى المتوافرة، أو التي توافرت على خلفية الثورة، وجرى الاستثمار في الدين والطائفية والثنية والعشائرية والعسكرة والإغاثة والمساعدات الإنسانية والإعلام والسينما والأدب وغيره، مع الإعراض الغريب عن البُنى والمنظمات السياسة المتعارف عليها مثل الأحزاب. لكن أغرب المحاولات وآخرها، هو ما يجري الإعداد له في هذه الأثناء في باريس، حيث تم جمع العشرات من منظمات المجتمع المدني، لتحويلها إلى ما يشبه حزباً سياسياً يقوده مركزياً، من خلال التحكم بالتمويل، تاجر ورجل أعمال يبدو أن لديه طموحات سياسية في سوريا المستقبلية، إلى جانب اهتمامات استثمارية في قطاعي النفط وإعادة الإعمار.

نبني موقفنا هذا استناداً إلى الإعلان الذي أصدرته منظمة “مدنيّة” المزمع إطلاقها مطلع الأسبوع المقبل من باريس، إضافة إلى عشرات المحادثات مع نشطاء وفاعلين في قطاع المجتمع المدني السوري. وقد جاء في البيان، بأن المظلة تهدف إلى “حشد الفاعلين المدنيين السورين”.. “لتقديم هؤلاء كنظراء قادرين على لعب دور قيادي في صناعة القرارات المتعلقة ببلدهم” و “إن المطالبة بالأحقية السياسية للفضاء المدني السوري تحت مظلة مدنية”.. “متجذرة في ضرورة أن يكون للفاعلين المدنيين السوريين دور فعال في التأثير في كافة مسارات الوصول لحل سياسي”.

ولا يخفى على أحد من المهتمين، ما تنطوي عليه العبارات السابقة من خلط مقصود لحابل المجتمع المدني بنابل السياسة، إذ، وحسب مفهومه الدارج في البلدان التي لديها تجربة ناضجة في هذا المجال، يتموضع المجتمع المدني بين المجتمع بصورة عامة والسلطة السياسية، لا في قلب السياسة وعملها، بل أن الفاعلين المدنيين يحاذرون حتى مجرد الإيحاء بعلاقة تربطهم بالعمل السياسي، ويعد ذلك شرطاً رئيسياً للتمويل والتبرع. وهنا، في حالتنا التي نحن بصددها، ثمة مخاطرة بتشويش هوية هذه المنظمات أمام المنظمات الدولية الداعمة والمانحة وحجب التمويل عن المنظمات المنضوية تحت جناح المنظمة/الحزب المشار إليه، وبالتالي مزيد من استفراد وهيمنة الممول الأوحد عليها، حيث يحتمل أن يتحول الفاعلون المدنيون إلى موظفين مختارين لديه فعلياً، وهذا يناقض الركن الآخر للعمل المدني وهو التطوعية والعمومية.

وفق نشطاء تحدثنا إليهم، لم يجر فتح باب الانتساب لمنظمات المجتمع المدني السوري عامة، بل تم ضم المنظمات التي يمولها أصلاً رجل العمال الذي يتزعمها، وإضافة عدد من المنظمات بطريقة الانتقاء السرّي الذي لم تُحدد شروطه. ورغم وجود إعلان بهذا الشأن يوزع بشكل شخصي، إلا أن القبول والضم يعتمد في النهاية على آراء ومعايير وأشخاص مجهولين، وهذا يقوض ركناً آخر من أركان العمل في قطاع المجتمع المدني، وهو الشفافية.

تطرح مسألة “توحيد” و”حشد” المجتمع المدني خطورة إضافية تتعلق باستقلالية وحرية مؤسسات المجتمع المدني في اختيار موضوعاتها ومجالات عملها. وهي ستصبح، والحال هذه رهينة أجندة مركزية الطابع، ربما تُصادر لخدمة طموحات سياسية ذات طابع شخصي، وبالتالي تقصر عن التعبير عن أولويات النشطاء المنضوين في هذه المنظمات.

لقد عاني المجتمع المدني السوري مؤخراً، مشكلات جمّة في التمويل، بسبب تراجع الاهتمام بسوريا وظهور أولويات جديدة مثل أوكرانيا، لكن مؤسساته تكافح وتجد طريقها في النهاية، وثمّة منظمات تُموّل من جيوب القائمين عليها، ويعمل فيها الأعضاء تطوعاً، وهذا لطالما كان الطريق لإنضاج هذا الضرب من التجارب ودفعها قدماً. وما يجري الآن، يُخشى أن يكون استغلالاً لأزمة التمويل الراهنة، وسينجم عنه إجهاض القطاع في العمق، ما يمكن أن ينتج منظمات معاقة ومدجنة، ينعم مدراؤها برواتب عالية، ويحملون الولاء للممول، لكنهم بلا فاعلية، وينتظرون مواسم التمويل من دون بذل جهد وزان لتطوير منظماتهم وأدواته، ومنها الكفاح من أجل التمويل والبقاء، الذي تخوضه كافة منظمات المجتمع المدني في العالم.

يقودنا العرض السابق إلى طرح سؤالين جوهريين. الأول، ما الذي يمنع اتحاد منظمات المجتمع المدني الـ150 المعلن عنها، على أسس مدنية محضة، وإنشاء مكتب ينسق أعمالها وجهود البحث المشترك عن مصادر الدعم والتمويل، بتبرعات بسيطة من كل منظمة، وجميعها يحصل على تمويلات، بعضها بملايين الدولارات سنوياً، وبقيادة خبراء ومناضلين من قطاع المجتمع المدني ذاته، عوضاً عن اللجوء إلى مظلة مالية لشخصية تنتمي إلى عالم المال والتجارة؟

والسؤال الثاني في المقابل: ما الذي يمنع التاجر ورجل الأعمال، المؤمن بالتغيير، من تأسيس حزب أو كيان سياسي على أسس ومعايير متعارف عليها؟ نحن نعلم أن المبالغ التي ستُنفق في هذه الحالة لن يمكن اقتطاعها من حسابات مصلحة الضرائب، لكن تصدي رجل أعمال للعمل السياسي الوطني، كما فعل رفيق الحريري يوماً عندما أطلق “تيار المستقبل”، يعني أن صاحب المبادرة لديه قضية وطنية وإنسانية وهي تستحق أن ينفق عليه من المال الخاص، لا من المال العام كما تملي القوانين، وهو ما له على كل حال قيمته ووجاهته في لحظتنا السورية الراهنة.

إن النقد الذي ينطوي عليه الموقف أعلاه، ليس بغرض مناهضة تجمع أو تنسيق عمل قطاع المجتمع المدني السوري هذا، أو أي عملية تجمع أخرى، بل تحسباً من تؤول هذه التجربة إلى إجهاض ذاتها جراء المثالب التي يمكن أن تظهر مستقبلاً، جارفة معها العشرات من المؤسسات التي بُنيت بالصبر والتضحيات الجسيمة.

إن المأمول من نشطاء المجتمع المدني وقادة المنظمات المنخرطة في هذه التجربة، التبصر والتفكر بعمق ومسؤولية في ما هم مقدمون عليه، لئلا يجدوا أنفسهم في موقف المفرّط في قيم ومبادئ المجتمع المدني، وتكرار تجارب فاشلة.

المصدر: المدن

شارك