مسارات التحوّل الديمقراطي: هل العرب استثناء؟

مسارات التحوّل الديمقراطي: هل العرب استثناء؟

مسارات التحوّل الديمقراطي: هل العرب استثناء؟

مسارات التحوّل الديمقراطي: هل العرب استثناء؟

مسارات التحوّل الديمقراطي: هل العرب استثناء؟

مسارات التحوّل الديمقراطي: هل العرب استثناء؟

مسارات التحوّل الديمقراطي: هل العرب استثناء؟

شارك

مسارات التحوّل الديمقراطي: هل العرب استثناء؟

مسارات التحوّل الديمقراطي: هل العرب استثناء؟

جسر: متابعات:

انطلقت الموجة الثالثة للانتقال الديمقراطي في العالم منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، من جنوب أوروبا، ثم امتدت خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، لتشمل بلدانا عديدة في أميركا اللاتينية، وآسيا، وأفريقيا، وشرق أوروبا ووسطها، بينما بقيت آفاق التحولات الديمقراطية غير مؤكّدة إلى حد كبير في العالم العربي، الذي نُظر إليه أنه يمثل استثناءً ضمن هذه الموجة من التحولات. تراجعت تلك الاستثنائية مع انطلاق انتفاضات “الربيع العربي”، لتطرح مجدّدا، وبقوة، بعد إخفاق معظمها في تفكيك بنى الاستبداد.

تريد تلك الاستثنائية المزعومة أن تدفعنا إلى الاعتقاد أن العالم العربي ميؤوس منه ديمقراطيا، وأنه غير قادرٍ على تحقيق الحرية، على غرار معظم شعوب العالم، والأجدر لكشف زيفها تحفيز البحث العلمي الموضوعي ليتولى الكشف عن الأسباب العميقة لتعثر المسار الديمقراطي في المنطقة العربية، مقارنةً بالمناطق الأخرى، وهو ما يحاول كاتب هذه السطور أن يسهم به في هذه العجالة.

عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، انتقلت الدول العربية التي توجهت، في أيديولوجياتها شرقا، تدريجيا، من اقتصادٍ موجّه نحو القطاع العام، إلى اقتصاد السوق. ومع ترسيخ عمليات الخصخصة، لم يستطع القطاع الخاص توفير ما يكفي من فرص عملٍ وفّرها سابقا القطاع العام، على الرغم من عثراته اقتصاديا تنمويا، لترتفع البطالة بين صفوف الشباب إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، نمت معها عدم المساواة الاقتصادية. وتطلعت الفئات الاجتماعية، المهمّشة والمقموعة المستبعدة من فوائد التنمية الاقتصادية، إلى الحصول على مزيد من الحرية والمشاركة السياسية، وذلك مع الرغبة التي تعزّزت مع الانفتاح على العالم الخارجي بفضل التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات. وقد تراكمت عوامل اقتصادية وسياسية، وغيرها من عوامل أساسية تفاعلت سنوات لتدفع باتجاه حيّز ديمقراطي في المنطقة، وأدت الدوافع المباشرة في بعض الدول العربية إلى خروج المعارضة من قيودها الحزبية، الضيقة والمعطّلة غالبا، ممتدةً إلى فئاتٍ كانت قد أقصيت من المجال العام، على شكل انتفاضات جماهيرية.

كانت العناصر الداخلية المباشرة التي أسهمت في تقويض النظام الاستبدادي أكثر هيمنةً وحسما في حالتي تونس ومصر، ما ساهم في النجاح الديمقراطي الواضح لتونس، وتجنّبت مصر صراعا داخليا أعقب إسقاط رأس النظام، قبل أن تتوالى عليها نكسات الديمقراطية، بعد انقلاب العسكر على رئيسها المنتخب، وإعادة تدوير النظام السابق في عهد حسني مبارك. سارعت دول عربية إلى إجراء بعض الإصلاحات، وكافحت أخرى للنأي بالنفس عن الانغماس في دوامة التَّفكُّك والانهيار والعنف التي التهمت الجوار. امتدّت الانتفاضات إلى سورية وليبيا واليمن، وباستثناء البحرين جزئيا، ومن ضمن عوامل أخرى، ضمنت المفاضلة، بين الرفاهية الاقتصادية والحقوق السياسية، المرتبطة بالوفرة النسبية للموارد النفطية، والتي حسمت لصالح الأولى، استقرارا (مؤقتا؟) لمعظم الأنظمة السياسية في الدول العربية الخليجية.

تمضي تونس بنجاح على طريق ديمقراطي، اختبرت خلاله قدرة روافعها الديمقراطية الفتية على ضمان الانتقال السلمي للسلطة، بعد وفاة رئيسها المنتخب، الباجي قائد السبسي. بينما في مصر، وغيرها، لم تفسد العسكرة المجتمعات فقط، بل والانتفاضات أيضا، إذ مع وجود المجالس العسكرية بعد إسقاط رأس النظام التي بقيت تنافس قوى التغيير المدنية على السلطة، تتعثر ثورتا الجزائر والسودان المندلعتان أخيرا، ولا يبدو أن الأمور تسير بقدم راسخة نحو الاستقرار، في ظل مماطلة العسكر في التنازل عن السلطة.

تشير تجارب الانتقال الديمقراطي الناجح في غير مكان إلى تحدّيين أساسيين يواجهان توطيد التحولات الديمقراطية، أولهما قدرة المطالبين بالديمقراطية بعد انتصارهم سياسيا على إنشاء وإرساء مؤسسات سياسية تمثيلية حقيقية قابلة للمساءلة، يشمل ذلك إعادة تأهيل الأجهزة الأمنية، والمؤسسات الإعلامية الحكومية، وتوفير ضمانات لرقابة القضاء والمجتمع المدني لاستعادة الثقة في أجهزة الدولة، وعودتها إلى العمل بفعّالية، بعيدا عن الفساد والرشوة والمحسوبية التي اخترقت المجتمع، وتم استبطانها ثقافياً لتصبح من طبائع الأمور، مع التمسّك بحدٍّ مناسبٍ من اللامركزية، الكفيلة بعدم إهمال التفاوتات الإقليمية، والتي تعيد الثقة في المجتمعات المحلية. لقد أسقطت الانتفاضات العربية أربعة أنظمة ديكتاتورية في سنة واحدة، ولكن التخلص من حاكم مستبد لم يكن كافيا بدون إرساء مؤسسات ديمقراطية فاعلة ونزيهة.

الدرس الأهم هنا أنه لا يمكن التركيز على مهمة التخلص من المستبد بإصرار كبير، مع تفكير محدود، وتخطيطٍ ضعيف، بشأن سؤال: ماذا بعد؟ لذا يتمثّل التحدّي الثاني في أن تمتلك قوى التغيير، المسيطرة حديثا على السلطة السياسية، استراتيجية اجتماعية اقتصادية شاملة تنفذ، لا بالتركيز فقط على النمو، وتوسيع فرص العمل، بل أيضًا تضع حدّا لاستحواذ النخبة على القطاع العام، وتفكيك تحكّم الدولة العميقة في مفاصل الاقتصاد الوطني. وباستثناء تونس التي نجحت، إلى حد كبير، في التحدّي الأول، ويتحتم عليها أن تنجح في الثاني، أخفقت معظم الانتفاضات العربية في التقدّم باتجاه التحدّيين المذكورين.
هزّت الانتفاضات أسس الاستبداد في أجزاء من العالم العربي، وقدّمت، في البداية، بصيصا من الأمل في التغيير الديمقراطي الإقليمي، إلا أن النزاعات الأهلية التي نشأت لاحقًا عزّزت بيئة الصراع، والتي تكاملت مع الصراعات الجيوسياسية (الصراع العربي الإسرائيلي، الصراع العربي الإيراني.. وغيرهما) في منطقةٍ باتت تحوز وحدها حوالي خمس الصراعات في العالم التي أثّرت، وتؤثّر سلبا، على عملية التحوّل الديمقراطي، فطالما استغلت الأنظمة الاستبدادية تلك الصراعات لتبرير حكمها، وللتهرّب من مسؤولياتها عن إخفاقاتها الوطنية والقومية المتتالية، حتى تسوية الحروب الأهلية في فترة ما قبل عام 2010 (الجزائر، اليمن، لبنان، السودان) فانتهت إلى الإبقاء على الأنظمة السياسية في البلدان التي مزّقتها الحروب كما كانت قائمة، واكتفت بتدوير رموزها، أضعفت تلك الصراعات المجتمعات لصالح تكريس سلطة الدولة وقبضتها الأمنية. بعد عام 2010، استجرت الانتفاضات في ظل تلك الصراعات تدخلا إقليميا ودوليا في الشؤون الداخلية، استُثمر لتحقيق أجنداتٍ خارجية، أو لتثبيت الأنظمة التي زعزعتها الانتفاضات. الدول التي خضعت للاستقطاب الناجم عن الصراع كانت أكثر تعثّرا، وتم استبدال الصراع على السلطة بمطلب التغيير الديمقراطي (سورية واليمن وليبيا).

لسنا أمام ربيعٍ متصل بقدر ما نحن أمام انتفاضاتٍ منفصلة، لكنها تشابهت على الأقل حين كسرت أسطورة رسوخ تلك النظم الاستبدادية، ووهم عصمتها، وكشفت مدى هشاشتها، فحاول من صمد منها إخفاء تلك الهشاشة وراء مظاهر القوة والعنف غير المسبوقيْن ضد المنتفضين. صحيحٌ أن معظم الانتفاضات أخفقت في الوصول إلى ضفة الديمقراطية، وتعثرت في مساراتها، وكانت نتائج بعضها كارثية، لكن ذلك لا يبرّر الإقرار بتلك الاستثنائية العربية المزعومة بمعناها السلبي، ولا يدفعنا إلى القول بنهاية “الربيع العربي” الذي أصبح يوتوبيا تعارض الواقع بالمثال، وتلهم ملايين من الجماهير العربية هنا وهناك، وسيبقى هذا الإلهام مستمرا في ظل استمرار الواقع الذي يعارضه مثال اليوتوبيا، والذي يبدو أسوأ مما كان عليه قبل عام 2010. ستستمر الانتفاضات بأشكالها التقليدية، وأخرى غير تقليدية، وبطابع أكثر محليةً وخصوصيةً، أما نجاحاتها في ترسيخ القدم على مسارات التحوّل الديمقراطي فمرهونةٌ بتعلم الدروس اللازمة بعد عقد من التعثر.

العربي الجديد 8 أيلول/سبتمبر 2019

شارك