عمر قدور
نقرأ في صفحة إخواني سوري معروف ما فحواه أن عدو السوريين هو بشار الأسد وزمرته فقط، وعليهم عدم تحويل معاركهم إلى غير هدفها. نظن للوهلة الأولى أن هذا التأكيد استمرار لموقف الرجل المدافع عن الراحلة منيرة القبيسي وعن تجربة القبيسيات، لنكتشف مع مزيد من الشرح الذي يسهب فيه أن الإشارة هذه المرة تتعلق بالموقف من الانعطافة التركية تجاه بشار، إذ على السوريين المحبطين منها ألا يعادوا أصحابها أو يعبّروا عن الغضب منهم.
سبب التباس الكلام علينا أن مثيله قيل أيضاً لمناسبة رحيل القبيسية الأولى، من ضمن أقوال عديدة ذهبت إلى الثناء على الراحلة وتزكيتها، وكان لا بد من أجل الثناء والتزكية القول بعدم محاسبة القبيسيات حتى إذا كان الظاهر منهن أقرب إلى موالاة الأسد، وصولاً إلى الثناء على الخلطة الأشعرية-النقشبندية التي ترتّب على اتباعها الابتعاد عن السياسة، حتى تحت حكم ظالم جائر.
مجموع ما صدر عن شخصيات إسلامية سورية معروفة يؤدي بنا إلى فصل الدين عن السياسة، فنحظى لمناسبة وفاة منيرة القبيسي بمشايخ أو إسلاميين سوريين علمانيين يفصلون الدين عن السياسة كما حدث مبكراً من عمر الثورة، عندما دافع إسلاميون معارضون عن البوطي الذي جاهر بموالاته الأسد وبتكفير الثائرين عليه. الكلام ليس في العموميات، ويمكن لمن يودّ الرجوع إلى التعازي بالراحلة، التي صدرت مشفوعة بالثناء عليها أو أعقبها دفاع يصبّ في المنحى ذاته، من قبل مشايخ وإسلاميين مثل “مفتي المعارضة” الشيخ أسامة الرفاعي ورئيس الائتلاف في ما مضى الشيخ أحمد معاذ الخطيب والإخواني المعروف زهير سالم.
بطبيعة الحال، لسنا في موقع أولئك الذين يحللون أو يحرّمون الترحم على ميت، ولسنا أيضاً في موقع أولئك الثوريين المنزَّهين عن المشاعر الشخصية. بمعنى أننا نتفهم التعزية التي تفصل بين الشخصي والعام، فلا يُلزم صاحبها نفسه ولا الآخرين بما يتعدى العتبة الإنسانية على أهميتها وضرورتها، منطلقين إلى هذا الفهم من التمزق الذي أصاب عائلات وأسراً سورية بين موالاة ومعارضة، ما يجسّد الحرب الأهلية بأقسى صورها أحياناً.
وإذا شئنا استخدام عدّة الإسلاميين؛ لا نرمي في المثال الراهن إلى انتقاد الترحّم على منيرة القبيسي، سواء أتى الترحّم لأسباب شخصية أو لأنه لا تجوز على الميت سوى الرحمة بحسب قسم منهم. ما نتوقف عنده هو الثناء على الراحلة وتزكيتها، حتى من دون توضيح يستثني شخصها من مجمل تجربة القبيسيات التي لم يأتِ من فراغ احتسابُها على الموالاة من قبل معظم السوريين.
الإسلاميون “المعارضون” المدافعون عن القبيسية الأولى وتنظيمها يخطّئون انطباع معظم السوريين، ومن المفيد أن نبسط ما يسوقونه لكونه صار نمطاً شهدناه وسنشهده مع دفاع كل إسلامي عن إسلامي آخر رغم ما قد نراه يفرّق بينهما. أهم ما يُساق لتخطئة الآخرين، غير الإسلاميين منهم خاصةً، اتهامهم بعدم المعرفة، وهذا من أكثر ما قيل لتبرير الثناء على القبيسية الأولى وتنظيمها. أصحاب هذا الاتهام أنفسهم لا يقدِّمون معرفة بالموضوع تبرر ثناءهم، بالأحرى هم لا يحتسبون أنفسهم مطالبين بمثله! نحن إزاء احتيال فكري موصوف، فأصحاب هذه الدعاوى والأهواء لا يبتغون الحقيقة “على نسبيتها”، وليس في جعبتهم معرفة يقدّمونها لتصويب آراء أولئك “الجاهلين”. إنهم فقط، ودائماً فقط، يريدون احتكار القول.
من طريف ما قيل ليس جهل السوريين بالقبيسيات، بل أن المعرفة بهن متعذّرة عملياً. مثلاً، تكتب قبيسية سابقة أن معرفة التنظيم تتطلب على الأقل مئات الشهادات من مختلف أطياف المنتسبات إليه، ثم استخلاص أقرب فكرة عنه باستبعاد ما لا يتكرر كنمط مستقر في الشهادات. هذا النوع من الكلام “الذي يتوخى الحقيقة” يُستغل في ميدان السياسة، فيصبح من المتعذّر استخلاص موقف ما من ظهور قبيسيات في ضيافة بشار الأسد بعدما ارتكبت قواته ما ارتكبت من مجازر، لأنه يجب عدم محاسبة الكل عمّا بدر من تلك المجموعة.
لا يقلّ احتيالاً فكرياً عمّا سبق القول أن تنظيم القبيسيات نشأ بعيداً عن سلطة الأسد، وأن الأخير لجأ إلى استغلاله بعد الثورة لأن التنظيم “بقدراته الذاتية” صار بمثابة أمر واقع، وبما له من دالّة على عائلات دمشقية مؤثرة. هنا أيضاً علينا أن نكون ساذجين جداً فنقتنع فوراً بأن نظام المخابرات الذي يحصي على السوريين أنفاسهم كان بعيداً عن نشأة وتوسع تنظيم القبيسيات، وأنه حاول استمالة قسم منهن بعدما فرضن أنفسهن “بعيداً بالمطلق عن السياسة” بقوة الدين والمجتمع!
يزيد من فداحة هذا الدجل الفكري أن الحديث يدور حول تنظيم انتشر بقوة في دمشق، ثم منها إلى مدن سورية أخرى مثل حلب، ثم صارت له فروع بأسماء مختلفة في العديد من البلدان العربية، وينبغي لنا الاقتناع بأن نشأته واتتشاره بعيدان عن السلطة. وحتى إذا تجاوزنا هذا الادّعاء؛ ما تتفق عليه أقوال نساء قدّمن شهادتهن، من قبل ولمناسبة رحيل منيرة القبيسي، هو أنه تنظيم شبيه بتنظيم الراهبات في القرون الوسطى، ومدارسه شبيهة بالصورة الشائعة عن مدارس الراهبات، لجهة القسوة والتعنيف الشديدين اللذين تتعرض لهما الطالبات “المخطئات”، من دون الخوض في ما قد يؤدي إليه كل ذلك الكبت والتعنيف من انحرافات نفسية وسلوكية.
هؤلاء أنفسهم، الذين يتباهون بعدم وجود رهبانية أو سلك كهنوت في الإسلام، نعوا القبيسية الأولى بوصفها “المربّية الفاضلة”، تحديداً لإنشائها هذه الشبكة التي ترتدي نساؤها لباساً موحّداً، يدل فيه لون الحجاب على المرتبة ضمن الهرَم. وقد راح البعض من “آنساتها” يأخذ مكانته من التشبّه بالراهبات لجهة عدم الزواج، ذلك فوق الدور الذي راح التنظيم يلعبه كاستشاري للعفة في ما يتعلق بتزكية زيجات وانفراط خطوبات أو زيجات أخرى.
هؤلاء المشايخ يضعون أنفسهم واقعياً في درجات عليا من سلّم الكهنوت الذكوري، رغم عدم وجوده تنظيمياً، ويفعلون ذلك عندما يحتكرون سلطة القول بزعم معرفتهم ما لا يعرفه العموم، وحتى بحكم وظائفهم كمفتٍ هنا وإمام هناك. ثم إنهم يفصلون الدين عن السياسة، أي يفعلون ما يطالب به العلمانيون، عندما تقتضي مصالحهم أو عصبويتهم كإسلاميين الفصلَ بين الاثنين. فحوى الفصل في حالتهم هو وضع إسلاميتهم فوق السياسة، فهكذا يمكن التبرير للقبيسيات، أو التبرير لانعطافة أردوغان وقبلها عودة حماس إلى الأسد.
لقد أثار هذا النفاق انتقادات حتى بين صفوف متدينين معارضين، إلا أن رهان المشايخ الرابح هو على الذاكرة قصيرة الأمد، فغالبية المنتقدين سينسون الحدث سريعاً، وسيبقى المفتي في ذاكرتهم هو المفتي والإمام هو الإمام. الغالبية ذاتها لن تخرج عن المألوف، إذ لا يستبعد أن تستنكر الانتقادات ذاتها عندما تصدر عن معارضين غير إسلاميين، وهذا شكل من احتكار القول بالتبعية، وشكل من احتكار الفضاء الثقافي الإسلامي الذي هو في الأصل مشاع لجميع أبناء هذه الثقافة، سواء كانوا إسلاميين أو غير إسلاميين؛ مسلمين أو غير مسلمين.
قبل الثورة، وحتى مع بدايتها، تمنى سوريون أن يقبل الأسد بمنطق المشاركة، بل أن يقود حداً مقبولاً من التغيير نحو التشاركية، فتغلب نزوعه إلى الاحتكار. قبل الثورة وبعدها، تمنى سوريون مشاركة الإسلاميين في مشروع تغيير من أجل شراكة مستقبلية حقيقية بين السوريين، بل قبِل معارضون أن يقود إسلاميون هذا المشروع، إلا أن شهوة الإسلاميين إلى الاحتكار بقيت غالبة. لم يُظهِر الأسد أنه استفاد من الدرس الذي أودى بسلطته لحساب غير السوريين، والمؤسف أن الإسلاميين لم يستفيدوا من درس الأسد، ولا يبدو أنهم في سبيل الاستفادة من مآلهم البائس، إذا كانوا يرونه ويرون أنه كذلك.
المصدر: المدن