حسام جزماتي
كان الوجه العسكري هو الأبرز في الصراع، الذي نشب بين هيئة تحرير الشام والفيلق الثالث في الجيش الوطني أساساً، الشهر الفائت، لكنه لم يكن الأعمق. فعلى خلاف معارك داخلية سابقة لاحظ المراقبون والجمهور أن الهيئة خاضت حربها، هذه المرة، بوصفها وسيلة اضطرارية عارضة لتحقيق هدف سامٍ معلنٍ هو توحيد المناطق المحررة تحت سلطة مدنية واحدة تضبط الأمن وتنظم الحياة، بالإضافة إلى تركز القوة العسكرية في يد قيادة واحدة تمهيداً لمعارك مفترضة قادمة مع النظام بصفوف مرصوصة.
من المعروف أن مظاهرات كثيرة خرجت ضد رغبة هيئة تحرير الشام في حكم المناطق المستهدفة. غير أنه من العادل أيضاً ألا نغفل عن رأي، لا تمكن الاستهانة بحجمه، يريد الخلاص من الفوضى الفصائلية ولو إلى “الجحيم” وعلى يد “الشيطان”.
المنطقتان متجاورتان، أي إدلب وشمالي حلب، ولا يجهل سكان الأخيرة ما يجري في الأولى من تسلط أمني واحتكار اقتصادي للموارد العامة وخصصتها لتستثمرها الهيئة عبر أمرائها ومن يشاركهم أو يلوذ بهم. غير أن السكان المستهدفين، الذين لم يذوقوا كل ذلك منذ زمن طويل، فضّلوه على تعدد “الأنظمة” والحواجز والأمنيات في مناطق السيطرة الشطرنجية الصغرى لفصائل متنافسة.
من جهته، عزف إعلام الهيئة على لحن “الناس تعبت” واشتاقت إلى حكم مركزي تعرف ضوابطه فتتعامل معه ونواهيه فتتجنبها. ولم يكن هذا فشلاً للفصائل فقط، بل إخفاقاً لتجربة اللامركزية التي انفتحت أمام سكان المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام. وكان الحكم المحلي هو أحد الوعود الوردية التي أطلقتها الثورة، فضلاً عن أنه ضرورة لإدارة هذه المناطق بانتظار الانتقال السياسي.
وكما بهتت الشعارات المركزية في الحرية والكرامة والعدالة، بعد عِقد من العذاب، تلطخت الإدارة المحلية بالطموحات الشخصية والعصبيات العائلية والفصائل المناطقية التي عمدت إلى استنزاف الموارد، المشروعة وغير المشروعة، لتغذية فرعونية المعلّم وزعرنة مقرّبيه وتوسعة سجونه، في غالب الأحيان.
لا تنفرد الهيئة بامتلاك هذا “الوعي” بنفسية السكان وخيباتهم، بل تشترك في ذلك مع كل الطغاة على اختلاف قياساتهم. وهنا يجدر أن نتذكر أن الوعد الذي قدّمته جدتها داعش لجمهور المناطق التي استهدفتها، فضلاً عن الحكم الإسلامي، كان القضاء على المفسدين، والسلطة المركزية القوية بأنظمة صارمة. لم يكن هذا النموذج ضعيف الجاذبية بعد سيطرة فصائلية كذلك، وما يزال يلعب دوراً في حنين البعض إلى أيام “الدولة” في مناطق تحولت، بعدها، إلى حكم سائل.
تشغل المركزية موقعاً محورياً في تفكير السوريين بالشأن العام. وفي استطلاع رأي جرى قبل أعوام تبيّن أنها ما تزال تحتل مكانها نفسه لدى سكان مناطق سيطرة النظام، في حين تزحزحت عنه قليلاً في المناطق المحررة مع نهضة المجالس المحلية وقتئذ، أما في مناطق هيمنة الإدارة الذاتية فقد طُرحت اللامركزية شعاراً سياسياً في مواجهة حكم دمشق الشمولي وظلت المركزية هي أسلوب الحكم الفعلي. ولا نضيف جديداً إن قلنا إن ذلك، بمجمله، يعود إلى تكريس المركزية في عقود رئاسة الأسد الأب الذي لم تغيّر التلوينات، الجزئية والمتضاربة، التي أجراها ابنه في طبيعة نظامه جوهرياً.
وبناء على ذلك تنفتح المركزية بشكل انسيابي على حكم الفرد وتفضي إلى الدكتاتورية وعشق المستبد، عادلاً كان أم مدّعياً للعدالة. وهنا نعود إلى الهيئة التي قدّمت نفسها برأس واحد مستدام مقابل رؤوس عديدة متناحرة ومتغيرة. ورغم أن أبا محمد الجولاني لا يحوز كاريزما لافتة، ولا يقترب من صورة الطاغية المهيب كما يجسدها صدام حسين مثلاً، خاصة مع التحولات الشبابية لظهوره، إلا أنه الطاغية الوحيد المتاح بعد قتل أبي بكر البغدادي والتقاط خلفائه من بعده واحداً تلو الآخر ونشر صورهم التي تشبه وجوه صغار المشبوهين في نشرة شرطية.
لقد أحدثت معارك الشمال الأخيرة رضّاً هزّ مناطق سيطرة الجيش الوطني. ومن المأمول أن تسفر القرارات التي أُعلن عنها قبل أيام إلى تغيير كثير من علائم الفوضى العسكرية والأمنية التي كانت حجة الهيئة ومدخلها إلى هذه المناطق بالتحالف مع بعض الفصائل وتحييد أخرى. غير أن مشكلة ميلنا إلى الحكم المركزي، ووصولاً إلى الاستبدادي، أعمق من أن يحلها أي قرار. وهي تحيل إلى ضرورة انتظار تراكم طويل في الوعي والتجربة لدى السوريين قبل أن يستطيعوا بناء شكل الحكم المناسب.
تسير المؤشرات في اتجاهات متضاربة. ففي حين يتلقّى سوريون دورات في مزايا الحكم المحلي وينتشر بينهم الوعي به إلى درجة غير مسبوقة؛ يدفعهم ماضيهم وحاضرهم إلى الغرام بالحكم “بقبضة من حديد”.
وفي وقتٍ وصلت فيه صورة دكتاتورهم السابق، بشار الأسد، إلى أدنى قعر من التهافت؛ يبدون قليلي المناعة تجاه مستبدين يحتاج حضورهم إلى مساند لتثبت. وبينما يحلمون بالحرية والعدالة والعيش الكريم؛ تحملهم الأزمة الاقتصادية على الاستزلام لمن تيسّر مقابل الفتات.
في 2011 لم يكن عموم الثوار يظنون أن المسيرة ستطول إلى هذه الدرجة، ولا أن المخاض سيتفاقم إلى هذا الحد ويبلغ هذا القدر من الاختلاط. ورغم ذلك فإن التحول السوري غير عكوس، ولا تفعل التعقيدات سوى زيادة مسافة الطريق. ليس هذا أمراً قليلاً دون شك، ففي الانتظار يمضي أناس أعمارهم ويموت آخرون وينشأ جيل ضائع. لكن توقيت ساعة بدء الخلاص ليس بيد أحد.
المصدر: تلفزيون سوريا