جسر: ثقافة:
فاجأنا الكاتب السوري، ميشيل كيلو، نحن قرّاءَه وأصدقاءَه، أخيراً، بإصدار عمل أدبي، لا تزيّد هنا في الزّعم إنه عالي القيمة إبداعياً، مبنىً ولغةً وإيقاعاً. اعتبرَه “قصةً طويلة”، كما كتب على غلاف “دير الجسور” (دار ميسلون، إسطنبول، 2019)، في حذرٍ من أن يعتبره روايةً، ربما بدافعٍ من عدم رغبته في أن يُظنّ مندسّاً بين جموعٍ من كتّابٍ عربٍ لهذا النوع الأدبي، لا ينفكّون يزيدون. ولكن صاحب هذه الكلمات يُشهر هنا أن ميشيل كيلو، في موقعته الأدبية هذه، لم ينجح فحسب في إنجاز روايةٍ، وإنما نجح أيضا في اختبار ملكةٍ لديه، وهي إتقان التعبير الأدبي، الرفيع فنّياً، عن حواشي النفس ودواخلها. تُسعفه، في أمره هذا، سَعَةٌ وفيرةٌ في معجمه، وانتباهاتٌ حاذقةٌ إلى المفردات الأدقّ والأكثر تسديداً في إصابته المعاني والمقاصد، وكذا الأكثر إيحاءً بالدلالات وامتلاءً بالمغازي. والشاهد على الإعجاب البادي هنا بملكة الأديب ميشيل كيلو هذه أنه راح في “دير الجسور” إلى جوف ضابط أمنٍ، ودخل في أخيلته ومداركه، وجالَ في جوّانياته، وأنْطقه ليقول مخاوفَه وأحلامَه وارتعاشاته، ومواطن ضعفه وأوهامه، وكل شيء فيه، وعن مباذله ومخازيه، وسلبه إخوته. أبدعت لغة ميشيل كيلو، المنسرحة، والمشحونة بثقافةٍ عاليةٍ، في تشخيص الحالة الطقوسية التي تتملّك هذا الضابط في خدمته الدولة، في رضاه عن أن يكون برغيّاً في دواليبها. (تذكّر هنا برواية نجيب محفوظ “حضرة المحترم”). ونجحت، قبل ذلك وبعده، في تصوير وطأة السّحق الثقيلةِ القبضة، بكل تفاصيلها الكابوسية، الكافكاوية أحياناً، والتي تمحو أي كينونةٍ لضابط الأمن هذا، ولا تجعله سوى شيءٍ، يصلُح مرّة ولا يصلح في أخرى.
ومن مفارقاتٍ غير قليلةٍ تناوش أفهام قارئ “دير الجسور”، الرواية القصيرة، غزيرة الظلال، أن كاتبها، وهو المعارض السوري الجسور لكل سلطةٍ مستبدّة، اختار منطقة الاستبداد نفسَها، أي تجبّرها الشديد الفظاظة على روح الإنسان ووجوده، مطلق الإنسان، لقناعةٍ بأن أبناء هذه السلطة في آلة المحو والفتك التي تقيمها هم أيضاً من ضحاياها، عندما لا تراهم سوى مستخدَمين، آلاتٍ تؤدّي أغراضاً، ولا يبعث حالُها هذا على غير الجزع. يُغامر ميشيل كيلو في ضربته الروائية المفاجئة في اكتراثه الكثير بتدمير دولة التسلّط القاهرة الذات الإنسانية لكل من يخدمونها، وتصيب المغامرة غرضها. تأتي الرواية، في أولى صفحاتها، على فظائع غرف التعذيب لناسٍ سيقوا إلى أقبية المخابرات المميتة، غير أنها، تالياً، تُفرد صفحاتها لسرد العقيد عاصي الخالد عن نفسِه، بضمير أناه المغيّبة، المعذّبة بفقدانها الجوهر الفرداني المحض.
سلكت “دير الجسور” خياراً، في بناء عالمها السردي الخاص، يقوم على تأثيث فضاءٍ زمانيٍّ غير متعيّن، فلا تُعرف في أي الأزمنة وقعت جائحة ضابط الجيش الذي صار ضابط مخابرات، لمّا كُلّف بالتقصّي في بلدةٍ اسمها دير الجسور بشأن حالة شخصٍ ملتبس التفاصيل، يُعرّف بأنه من أعتى المتآمرين على الوطن. كما أن هذه البلدة، وكذا ضيعة مزار الوحش وبلدة مزار الدب، لا يعرّفك السرد، المتتابع بلغة أنا الراوي، ببلادها. هذا إذا فاتك أن تلحظ اسم سورية، مرةً وحيدة، في ص 51، الأمر الذي يرجّح أن هذه الإشارة، اليتيمة، إما فلتت من ميشيل كيلو سهواً، أو أنه أراد إسعاف قارئ عمله النابه هذا بهذه الإحالة التي لا تستقيم مع وجود مسمّيات البلدات والضيعات التي لا وجود لها في القُطر السوري، سيما وأن الحال الشبحيّ لأوضاع بلدة دير الجسور (حدودية مع بلد مجاور معاد!) لا ينطق عن أي شبهٍ مع مثيلٍ له يمكن أن يحدس به القارئ، لتعيين مكانٍ معلومٍ في سورية. وهنا، يجد كاتب هذا الثناء على الرواية أن الالتباس البديع في مسار سردها كان الأدعى فيه، والأبلغ كثافةً وترميزاً، أن يخلو من تلك الإشارة إلى سورية، لتبقى هذه الإحالة، العالية المنزلة فنياً، ذاهبةً فقط إلى الجوهراني الإنساني في تشخيص أثقال القهر القاسي على النفس البشرية، وإنْ في موقع خادم السلطة الذي لا يقرّ بفقدانه الإحساس بنفسه والأشياء، كما حدّث وقال، إلا عندما انهال السوط على جسده العاري.. في الزنزانة التي انتهى إليها في مختتم النص.
مقادير التخييل الوفيرة، وغرائبيّة وقائعها، والتهكّمية البادية في ثنايا السرد، والمرسلات غير الخافية فيه، من بعض أسباب إعجابٍ مستحقٍ بصنيع ميشيل كيلو الروائي .. المفاجئ الطيب.
العربي الجديد 13 أيلول/سبتمبر 2019