سمية الجندي
مع بدء انطلاق الحراك المدني في سوريا، ترقبنا نهاية حقبة وبداية أخرى على وجه السرعة كانت الآمال بتغيير الواقع السوري كبيرة. ولكن آلة الحرب الوحشية سرعان ما التهمت الآمال في التغيير حين تمت عسكرة الحراك السلمي وتشتيت القوى المناوئة للسلطة.
وعند البدء بصياغة دستور جديد، تلهفنا إلى الدخول في حالة سياسية جديدة، فالسيل قد بلغ الزبى في حياة الشعب السوري والحل السياسي لم يعد يبدو وشيك التحقق الصياغة الدستورية للمرحلة القادمة مسألة يفترض أنها في غاية الأهمية وقد انخرطت فيها ورش فكرية من اتجاهات مختلفة تكاد تجمع على تأسيس مشروع وطني شامل يضم كافة أطياف الشعب السوري.
لكن التحدي الذي تواجهه هذه الورش الفكرية يبدو كبيراً، لاسيما وأن الواقع السوري في هذه المرحلة لا يذكِّر إلا بأدغال هوبز المجتمع المدني، وعن طريق ما صار يعرف بلجانه الدستورية، أجرى مناقشات وطرح توصيات حول حالة الفوضى أو “الطبيعة الهوبزية” التي باتت الآن سائدة في سوريا. المناقشات والتوصيات نشرتها اللجان تباعا تحت اسم “ملخصات” على موقع نواة سوريا.
موقع نواة سوريا هو المنبر الإعلامي لمجموعة سياسية تحمل الاسم ذاته مقرها في أورساي فرنسا، تأسست في شباط، فبراير عام 2018 وتسعى إلى تحقيق دولة المواطنة والقانون من حيث المحتوى تتناول الملخصات على “نواة” سبعة مبادئ دستورية تطمح إلى صياغة مشروع وطني ديمقراطي.
في هذا المقال، وهو جزء من مسودة ورقة بحثية، ألخص تلك المناقشات والتوصيات وأدون بعض الملاحظات عليها.
“الحالة الطبيعية” أو أدغال هوبز
في فلسفة هوبز (1588ـ1679) حول الطبيعة البشرية وDe Corpore Politico توجد عبثية لا يخضع لها أي كائن حي سوى الإنسان حيث لا وجود للنشاط أو الإنتاج الصناعي، والإنتاج الزراعي شبه معدوم، وحراثة الأرض متوقفة، والإبحار متوقف، وحركة التجارة والاستيراد متوقفة، ولا وجود للأدوات ولا للمعرفة بشؤون تدبير الاقتصاد، ولا حساب للزمن. الحياة الإنسانية في «الحالة الطبيعية» منعزلة وفقيرة ومقرفة وبهيمية وقصيرة الأجل، لا حضور فيها لنظام سياسي وأخلاق وقانون. أما “الحريات الطبيعية” فهي تتيح لكافة البشر أن يفعلوا ما حلا لهم من قتل وسلب ونهب واغتصاب وحرب. الأسوأ على الإطلاق في أدغال التوحش تلك هو انتشار الخوف المستمر، والرعب من خطر الموت الشنيع؛ والحياة الكريهة التي يعيشها الناس غارقين في فقر مدقع وعزلة يصيرون معها عبيدا للحظات البهيمية وكلما ساورتهم الخشية من المستقبل وجدوا ملاذا في المعتقدات الدينية والخرافات.
هذه هي حال البشر في أدغال هوبز الفوضوية، أو بأية حال فيما رآه الفيلسوف من “الحالة الطبيعية”. فإن كانت للبشر أسباب قوية لتجنب تلك الحالة أمكنهم ذلك شريطة أن يخضعوا لسلطة عامة وأن يعترف بعضهم لبعضهم الآخر اعترافًا متبادلًا بهذه السلطة لأنه مادام الإنسان في هذه الحالة من الطبيعة المطلقة، وما دامت الطبيعة المطلقة (المحض) هي حالة حرب، فالنزعة الغريزية الذاتية تكون معيارًا للخير والشر. ومن أجل تفادي ذلك، ينبغي على الرجال “الأحرار” أن يتعاقدوا فيما بينهم لإنشاء مجتمع سياسي (مدني) في عقد اجتماعي يمدهم بالأمان، لقاء خضوعهم لسلطة مطلقة يفرضها رجل واحد أو مجلس من الرجال. سيان إن كانت السلطة مطلقة أو استبدادية متعسفة، فهي وفقاً لهوبز البديل الوحيد لعبثية الفوضى المرعبة الكائنة في الحالة الطبيعية، وما على البشر إلا أن يوافقوا على التنازل عن حقوقهم، أي عن طبيعتهم “الطبيعية” وعن حريتهم الأنانية المنفلتة، كي يتمتعوا بمنافع النظام السياسي التي يغدقها عليهم العقد الاجتماعي. ما ورد أعلاه من وصف هوبز ل “الطبيعة البشرية” ينطبق تماما على الوضع في سوريا، رغم تلك المفارقة الطريفة في توصيف الوضع في سوريا على أنه “حالة طبيعية”، مع أنه الآن أبعد ما يكون عن الطبيعي.
العقد الاجتماعي الجديد لسوريا ديمقراطية بدأت الدعوات إلى تأسيس عقد اجتماعي في سوريا الآن فقط في القرن الحادي والعشرين، مع أن المنشأ النظري لفكرة العقد الاجتماعي يعود إلى عهد الفلاسفة اليونان والفكرة لاقت شيوعا في عهد فلاسفة التنوير مثل هوبز ولوك وروسو. هؤلاء الفلاسفة كتبوا عنها خلال الفترة الممتدة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر كما ناقشها هيغل. لماذا فكرة هوبز دون سواها من أفكار هؤلاء الفلاسفة تتناسب أكثر من سواها مع النموذج السوري، فهذا يعود إلى أن فكرة هوبز عن “الحالة الطبيعية” أو بالأصح عن مرحلة (ما قبل المجتمع) الهمجية تتوافق تماما مع التركيبة الحالية للدولة السورية.
فالعقد الاجتماعي في سورية كان وعلى مدى عقود، مبنياً على علاقات المحسوبية والولاء.
والحكومات المتوالية على سورية منذ الاستقلال، أخفقت في التوصل إلى عقد اجتماعي مبني على مسائلة الحكومة أمام المواطنين، مقابل توفير الخدمات وتوزيع عادل للموارد الوطنية. وبما أن شرعية الحكومة كانت متزعزعة، سهل حدوث انقلابات سياسية متكررة ومُهِّد الطريق لحكم سلطوي صار معه الاقتصاد في فترة السبعينات اقتصادا سياسيا مبنيا على مركزية الدولة.
وعلى الرغم من التنظيم والتخطيط المركزي للاقتصاد، المملوك من الدولة، بقيت أجزاء كبيرة منه خارج القطاع الرسمي حتى بلغ نصف الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية القرن العشرين.
العقد الاجتماعي لحزب البعث كان وما يزال عاجزاًّ عن تحقيق سياسات مالية حقيقية تدر تدفقا ماليا على الاقتصاد وتنقذه من العجز والدين العام. كما أن التوزيع غير المتكافئ للسلع الحكومية أدى إلى إعادة توزيع السلع غير الرسمية وهذا ما فتح الباب للفساد والمحسوبيات.
مع منتصف الثمانينات زادت الفجوة بين الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي فالدولة من جهة تدير قسما كبيرا من الاقتصاد بينما القطاع الخاص، أي الاقتصاد غير الرسمي، يمد من جهة أخرى معظم الأسر بالدخل مما حد من الإيرادات الضريبية للدولة وجعلها غير قادرة على جذب استثمارات إنتاجية ذات شأن. بين عامي 1990 و2000 فشلت محاولات الدولة للإصلاح عبر توسيع القطاع الرسمي وفي خلق الاستقرار وإرساء عقد اجتماعي جديد.
عام 2000 جرت محاولات للإصلاح الاقتصادي لكنها لم تفلح أيضا في تحفيز الاستثمار لتوسيع القاعدة الضريبية. بين عامي 2000 و2010 جرت محاولات جديدة للإصلاح منيت أيضا بالفشل
بعد عشر سنوات من الحرب تعمق الفشل مع انخفاض الناتج المحلي بما يزيد عن نسبة 65% كما زاد التضخم وتفاقم الفقر وتعمق الطابع غير الرسمي للاقتصاد واتجهت قرابة 17% من القوى العاملة إلى أنشطة غير مشروعة وصار أمراء الحرب (أولئك المستفيدون من الصراع العسكري الدائر) منفذا أساسيا لاستيراد البضائع رغم العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد لاسيما وأن إيرادات هؤلاء تأتي من موارد الدولة والمساعدات الإغاثية الموجهة إلى الاقتصاد المحلي. وفقا لآخر تقرير عن حالة الشعب السوري بحسب بيانات الأمم المتحدة، “هناك 6.7 مليون لاجئ سوري، مع 6.6 مليون نازح داخليا، و13 مليون سوري بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، بما في ذلك 6 ملايين مواطن في حالة عوز شديد، و12.4 مليون سوري يكابدون انعدام الأمن الغذائي، وأكثر من 80 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، مع 2.5 مليون طفل خارج نظام التعليم في سوريا، بالإضافة إلى 1.6 مليون طفل معرضين لمخاطر التسرب من المنظومة التعليمية” العقد الاجتماعي السابق في سوريا يلفظ الآن أنفاسه الأخيرة, يغض الطرف عن الفساد ويحيل تدهور اقتصاد البلاد إلى العقوبات المفروضة على النظام. هذا النظام الدكتاتوري الذي حطم معنى العقد الاجتماعي، بل وحطم معه مفهوم الشراكة وكل ما هو قوة منظمة في المجتمع كي يضمن استمرار سلطته كقوة منظِّمة وحيدة.
الآن وبعد أحد عشرة عاما على اندلاع الحرب تتجه الأنظار نحو صياغة عقد اجتماعي جديد لسورية ديمقراطية تراعى فيها حقوق الإنسان بغض النظر عن انتماءات الإنسان السياسية أو العرقية أو الطائفية. هذا ما تسمو إليه على الأقل اللجان الدستورية المنبثقة عن المجتمع المدني. لماذا المجتمع المدني، لأن الحراك الشعبي في سوريا منذ بدايته كان مدنيا.
المجتمع المدني
المجتمع المدني أو مصطلح (Societas Civilis) هو وليد الفكر الغربي وتطوره، انتشر بطابعه الفلسفي منذ القرن الخامس عشر بفضل فلاسفة التنوير ثم أصبح ذا طابع سياسي في مرحلة مقاومة أنظمة الحكم المطلق وتم تداوله في أوربا في القرن السابع عشر مع نشوء الديمقراطيات التي أقيمت على أنقاض الأنظمة السياسية المستبدة كالنظام الإقطاعي والنظام الكنسي. توماس هوبز في كتاب له حول حقوق الإنسان صادر عام 1791 استخدم المصطلح أيضا للتفريق بين الدولة والمجتمع المدني وفيه دعي إلى حكومة محددة الوظائف ومجتمع مدني حر وسام. أما غرامشي فيموضع “المجتمع المدني” بين الاقتصاد والدولة وما لها من تشريعات، ووفق رأيه يتألف المجتمع المدني من مجموعة من التنظيمات كالمدرسة والكنيسة والنقابات والجمعيات ويعني الرأي العام غير الرسمي، أي الذي لا يخضع لسلطة الدولة.
ظهرت منظمات المجتمع المدني بكثافة في سورية بعد الحراك الشعبي عام 2011 ويمكن تعريفها على أنها: “الكيانـات أو المؤسسـات ُ أو التنظيمـات التطوعيـة، غيـر الحكوميـة وغيـر المتحزبة التـي لا تسـعى للوصـول إلـى السـلطة، وتمـارس نشـاطات سلمية غير مسلحة بهـدف تحقيـق مصالـح فئـة اجتماعيـة معينة أو مصالح شعبية عامة، تصب في حقل المصلحة العامة”.
المجتمع المدني بما فيه من تنظيمات غير حكومية، يضطلع بمهمة تأطير العلاقة بين الفرد والدولة ومراقبة وترشيد عمل الدولة وحماية الأفراد من تغولها.
لماذا كتلة المجتمع المدني لصياغة دستور ما بعد الحرب، أو بمعنى أدق لماذا أنيطت مهمة إعداد الدستور باللجان المنبثقة عن المجتمع المدني في سورية؟ ما هي الصياغات الدستورية التي أنجزتها هذه اللجان حتى الآن؟ وهل توجد في الصياغات الدستورية المنجزة حتى الآن تمظهرات للمشروع الوطني الديمقراطي؟
الأسئلة الواردة أعلاه هي ما تحاول هذه الورقة (مسودة لمشروع دراسة قادمة) أن تجيب عليها بإيجاز.
لماذا كتلة المجتمع المدني السوري لصياغة الدستور؟
أنيطت مهمة صياغة دستور ما بعد الحرب بكتلة المجتمع المدني أولا، تأسيسا على القرار الأممي 2254 وثانيا، لوجود أمل لدى السوريين بتعزيز الروابط الوطنية بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية.
ماهي الصياغات الدستورية التي أنجزتها هذه اللجان حتى الآن وهل توجد فيها بعض تمظهرات مشروع وطني ديمقراطي؟ هذا سؤال تكون الإجابة عليه بعد عرض ملخص للمناقشات والاقتراحات التي قدمت عن المجتمع المدني للمحاور التالية: هوية الدولة، اللامركزية، تمكين المجتمع المدني في الدستور، فصل الدين عن الدولة، حقوق المرأة، المسألة الكردية، والعدالة الانتقالية.
فيما يلي أهم ما جاء في ملخصات تلك المحاور.
هوية الدولة
وفقا للصياغات الدستورية التي قدمها أعضاء كتلة المجتمع المدني في اللجنة الدستورية كما أوردها موقع “نواة” الإعلامي يعتبر محور الهوية مفتاحا لمشروع التغيير (محور فصل الدين عن الدولة). فالهوية السورية لم تكن منجزة خلال المئة عام الماضية، بل تأثرت بتيارات إقليمية وعالمية ومصالح سياسية لقوى عديدة، محلية وخارجية، مستفيدة من تفكيك الهوية ونسف الإرادة السياسية في العيش المشترك. حزب البعث الحاكم حاول أن يجعل من الهوية السورية حالة حزبية قومية أكثر منها سورية، لذلك لا توجد اليوم هوية وطنية سورية جامعة منسجمة مع السياق السياسي التاريخي الخاص بسوريا. ما يوجد الآن هو صراع بين منظومتين فكريتين مسيطرتين هما الفكر القومي والإسلام السياسي. وبين هاتين المنظومتين تستعمل الهويات كوسيلة لبلوغ السلطة أو لترسيخها وبالتالي فالهويات شمولية لا تشميليه.
وبما أن الهوية السورية تتصف بأنها متنوعة، متراكبة، مكانية، دينية، أيديولوجية وجنسية، لا يمكن فرض هوية واحدة على سوريا وإنما يجب السعي إلى بناء هوية وطنية جامعة، وإعلاء مبدأ العيش المشترك فوق المصالح السياسية، وعدم الخلط بين الهويات الثقافية والكيانات السياسية وهذا هو أشد ما تفتقر إليه سورية الآن.
اللامركزية
في النظام الحالي لا الديمقراطية متوفرة ولا اللامركزية. النظام الحالي مركزي وبيروقراطي يدعي بوجود لامركزية، لكن “لامركزيته” صورية. فموارد المحافظات تدار بشكل مركزي والمسؤولون عن المحافظات يولون الأهمية للمركز لا للمجالس المحلية، والمجالس المحلية صورية وكافة الإجراءات الإدارية ترسم وفق استراتيجية مركزية.
من هنا أهمية التخطيط لدستور لا مركزي تتوافر فيه أسس محددة مثل: مراعاة التنوع والتناغم الاجتماعي بين الأطياف الثقافية والاثنية المختلفة بما يخلق استقرارا لها، مراعاة المعيار الاقتصادي بما يحقق تنمية عادلة ومتساوية لكافة المناطق، مراعاة الحدود الادارية والفضاءات الاجتماعية للتركيبة الاجتماعية والفضاء الثقافي الطبيعي الموجود في كل منطقة، عدم اصطناع حالات ديمغرافية كتلك التي لم تكن جزءاً من الحالة السورية في فترة ما قبل الحرب.
التخطيط لدستور لا مركزي يقتضي نبذ الطائفية والتمييز بين الدعوة إلى التقسيم والدعوة إلى اللامركزية. وهنا من الضروري التمييز بين الدعوة إلى اللامركزية والدعوة إلى التقسيم لأن هذه الأخيرة دعوة تضمن ديمومة استمرار هيمنة النظام المركزي.
تمكين المجتمع المدني في الدستور
لا يرد في الدستور المحتضر للنظام الحالي تعريف واضح لمنظمات المجتمع المدني، بل يشار إليها على أنها “حق التجمع للأفراد”. التعريف تم تركه للسلطة التشريعية والقوانين مما جعل تلك المنظمات خاضعة لتحكم القوانين الاستثنائية التي حدت من فاعليتها.
حزب البعث الشمولي من جهته وبدعوى حماية الدولة والمجتمع نظر إلى منظمات المجتمع المدني غير المرهونة له كمصدر للخطر قد يخترق الدولة والمجتمع. لذلك قوبلت محاولات هيئات المجتمع السوري إنشاء قانون عصري للمنظمات غير الحكومية بالرفض من حزب البعث خوفا من تغير معادلة السيطرة. من هنا تأتي أهمية تعريف دور حقيقي لمنظمات المجتمع المدني في بناء الدولة والمجتمع والتنمية وإعطاء مساحة واسعة لها عبر حصولها على موارد حقيقية، لأن مساحة العمل المدني تتحدد بالموارد المالية كما تتحدد بالوضع القانوني أي بالدستور.
في مناقشاتها وصياغاتها للدستور الجديد، تولي اللجان الدستورية المنبثقة عن المجتمع المدني اهتماما خاصا لمسألة التمويل. فالموارد المالية عامل حاسم في تفعيل عمل هيئات المجتمع المدني خاصة وأن عملها تطوعي. غير أن مسألة التمويل مشروطة بالاستقلالية، بـضرورة إخضاع مال المنظمات غير الحكومية للرقابة. وهي مشروطة أيضا بضرورة أن يتم التمويل عبر موارد محلية وأيضا خارجية (حكومات أو(و) منظمات دولية غير حكومية ذات توجهات وأهداف واضحة مثل هيئات حقوق المرأة، والإنسان، والشباب، والبيئة) بما يتوافق مع أهداف واضحة للمنظمات المدنية ومشاريعها ويضمن أسسا من الشفافية حفاظا على الاستقلالية.
مسألة التمويل مشروطة أيضا بضرورة أن تقوم معايير التمويل على التخصص والسجل العلمي للمنظمة المدنية ودورها في المنفعة العامة وأن توجه الأولوية في التمويل لكل ما يتعلق بالتنمية.
اللجان الدستورية توضح المقصود بالنفع العام على أنه المنفعة العامة أو “الصالح العام” أي تجاوز المصالح الخاصة لتحديد القواعد الضرورية للحياة في المجتمع […]. ويتم تحديد المنفعة العامة، أو إزالتها، من خلال المسار الديمقراطي وفي أغلب الأحيان عن طريق القانون” بما أن المسار الديمقراطي غائب تماما من سورية و الحكومة تتعدى تعديا فاق كل حسبان على الحقوق، من هنا تأتي أهمية تثبيت مفهوم واضح للمنفعة العامة في الدستور الجديد وتقديمه من منظور عام غير مرتبط بالمنظور المذهبي أو القومي وغير محصور بفئة محددة بغية تجنب الإشكاليات في تطبيقه.
ارتباطا بمسألة التمويل وتحديد مفهوم النفع العام، تلفت اللجان الدستورية النظر الى ضرورة التمييز بين المنظمات المختلفة المنبثقة عن المجتمع المدني فمنها الخيرية ومنها الحقوقية وتوجها هذين النوعين من المنظمات مختلفين فأحدهما ديني والآخر مدني. منظمات المجتمع المدني شيء والمؤسسات الدينية المسيطرة مدنيا شيء آخر. المنظمات الدينية مرتبطة حصرا بالهويات وتفتقر إلى الشفافية. كما أن الإسلام السياسي بتوجهاته النيو ليبرالية الجديدة يستعمل الاقتصاد كي يسيطر دينيا.
فصل الدين عن الدولة
المراجعة التاريخية لمفهوم هوية الدولة عبر الدساتير السابقة بدءا بالدستور العثماني وصولا الى دستور ١٩٢٠ تظهِر أنه كان مرتبطا بهدف الاستقلال من العثمانيين والانتداب الفرنسي. من هنا جاء ارتباطه بالدين الإسلامي كطابع هوياتي لكنه بعد الاستقلال أخضع للنقاش ويطرح الآن، بعد الحرب، مجددا للنقاش وللتمحيص.
اللجان الدستورية المنبثقة عن المجتمع المدني تنادي بفصل الدين عن الدولة أي بالعلمانية وترى أن أهم مبادئها:
أولا: ضرورة العمل على تغيير المجتمع دون الدخول في استقطابات سياسية والابتعاد عن تكريس الهويات القديمة القومية او الدينية.
ثانيا: ضرورة التخلي عن تحديد دين رئيس الدولة لأن هذا يتناقض مع مفهوم الدولة المدنية ومع مبدأ المساواة بين المواطنين وهذا مبدأ لا يعني الالحاد ولابد من إقراره في الدستور الجديد.
ثالثا: ضرورة التفاهم ضمن اللجنة الدستورية الموسعة وتفادي الانقسام حول تبني مفهوم العلمانية.
رابعا: ضرورة التمييز بين فصل الدين عن الدولة والموقف من الدين. العلمانية أو فصل الدين عن الدولة ليس محاربة الدين. فالدين يرتبط بالحياة الخاصة لا بحكم من الدولة ووزاراتها ومؤسساتها. ولجميع المواطنين الحق في تولي منصب رئيس الدولة وكافة المناصب الأخرى بغض النظر عن هوياتهم الدينية.
خامسا: الفقه قد يكون أحد مصادر التشريع لا المصدر الوحيد. من الضروري أن يحترم الدستور جميع المعتقدات الدينية وأن يحمي الحرية الدينية والمساواة وفق مبدأ أن الحرية حق مقدس.
سادسا: ضرورة اعتبار وزارة الاوقاف حكومية وليس دينية والدولة مؤسسات خدمية مدنية التشريعات بغير صفة دينية أو قومية أو شخصية، بل هي تعددية بتعدد هويات مواطنيها.
سابعا: ضرورة متابعة المفاهيم الدينية في حياة المجتمع وفي التربية والتعليم لتجنب وجود أي مفاهيم سلبية تبتعد عن جوهر القيم الإنسانية. ولكفالة تحقيق المساواة التامة تقترح لجان المجتمع المدني الرقابة على عمل المحكمة الدستورية كي تؤدي دورها في مراقبة وضبط القوانين والتغييرات المحتملة للدستور.
حقوق المرأة في الدستور
حقوق المرأة هي الأكثر تضررا في ظل الدساتير الماضية وفي قانون الاحوال الشخصية الحالي. الدساتير السابقة أوردت بنودا يكتنفها الغموض حول مساواة المرأة بالرجل وحقها في المشاركة في الحياة السياسية وبخاصة في المؤسسات التمثيلية للدولة.
المرأة السورية مازالت موضوعاً خاضعاً للاستقطاب والتجاذب بين القوى الدينية والسياسية المختلفة. وعرضة لأنواع التمييز والتهميش والعنف ولم تحصل بعد على حقوقها كاملة في كافة المجالات وليس لها ما يضمن صوتها في العمل بالشأن العام باستثناء مناطق شمال شرق سوريا الخاضعة للسيطرة الكردية حيث تشارك المرأة مشاركة فعالة في ميادين عسكرية وسياسية ومهنية عديدة وتحصل على حماية ودعم ضد الاعتداء.
من هنا تأتي أهمية تغيير الأحوال الشخصية في الدستور وسن قوانين مدنية تضمن حرية الاختيار في مسائل حق الوصاية، حضانة الأبناء للأم، وحق منح جنسيتها للأطفال لأن ما تقدمه تيارات الإسلام السياسي من طروحات حول حقوق المرأة لا تفضل في شيء الفكر الديني (الشريعة) الذي تحكم تاريخيا في صياغة الدستور. لابل إن تيارات الإسلام السياسي تحول الدين إلى حزب سياسي ينضوي الجميع تحت جناحه في حين تقتضي مصلحة الجميع أن تكون القوانين حيادية دون ارتباط بالثقافات الدينية لأي كان.
وفي حين تتمسك اللجان الدستورية لمنظمات المجتمع المدني بهذه المعاهدات وتعتبرها بمثابة قانون عام، تعتبر الأطراف الحكومية أن التمسك بالاعتراف بالمعاهدات الدولية باب للتدخل الخارجي ولا تلتزم بالمواثيق رغم التوقيع عليها في عدة دساتير، 1948و 1973ومن تلك المواثيق ما يتعلق بالمساواة التامة في الحقوق. لا بل أصدرت الحكومة قوانين تتناقض مع الاتفاقيات الموقع عليها كقانون منع المرأة من السفر من دون موافقة زوجها. لذا اقتضى تثبيت حقوق المرأة في الدستور. ووضوح المقصود بالحقوق الاجتماعية، الفردية، الاقتصادية. أما الحقوق السياسية للمرأة، وفقا لما ورد من صياغات واقتراحات اللجان الدستورية، فمن الممكن أن تضمنها منظومات كوتا ذكية كي لا يتم اقصاء النساء من العمليات الانتخابية وكذلك تعديل البند الخاص بتعيين رئيس الجمهورية كي لا يحصر هذا المنصب بالذكور، ما يتناقض و حالة المساواة الجندرية، وإنما يتيح للمرأة حق الترشح إلى والتعيين في منصب رئيس الجمهورية.
المسألة الكردية
ظهرت التيارات والأحزاب الكردية خلال فترة الخمسينات وسط حراك سياسي وفكري نشط وكانت عند انطلاقتها تدافع عن حقها في الوجود وتطالب بالحقوق الثقافية وحق التمثيل في البرلمان في حين كانت مطالبها السياسية محدودة. الآن تعاني التيارات والأحزاب الكردية من الاستقطاب الحزبي في داخلها وبالتالي فهي تحتاج إلى العمل على مفهوم الهوية من دون فرض هوية قومية واحدة عربية أو كردية. كما تحتاج إلى العمل على مفهوم اللامركزية والسعي إلى تطبيق إدارة محلية للموارد ومنع بناء أحزاب تقوم على أساس دعوة دينية او قومية وفتح مجال لتأسيس أحزاب تتبنى ثقافة الشعب السوري كاملة أي العمل على إعادة بناء مفهوم الوطن والهوية الوطنية وضرورة الخروج من حالة الصراعات الأيديولوجية. لابد من تنازلات من الطرفين كردًا وعربًا لصالح المشروع الوطني الديمقراطي.
العدالة… انتقالية، تصالحية وتعويضية
في إثر انعقاد الجولة الرابعة من مباحثات الدستور اقترح المبعوث الدولي مصطلح “العدالة التصالحية” الذي يقصد به فض النزاعات ذات الطابع الجنائي في عملية تصالحية يشترك فيها الجاني والضحية معا. لكن المصطلح قوبل بالرفض من المعارضة التي تمسكت بدلا من ذلك بمصطلح العدالة الانتقالية الذي رفضته الحكومة أما اللجان الدستورية للمجتمع المدني فرأت أنه لا غنى عنه في المرحلة الانتقالية. فلابد من أن يحاسب كل من شارك في الانتهاكات خلال سنوات الحرب على أنها جرائم حرب، وأن تجري عمليات تعويض وجبر ضرر للمجني عليهم. هنا تأتي أهمية العدالة التعويضية لتمكين جميع السوريين والنازحين من ان يعودوا طوعا عودة اختيارية، بأمان وكرامة إلى أراضيهم ويسترجعون حقوقهم واملاكهم المنهوبة.
لكن هناك من الأسباب ما تجعل مصطلح العدالة الانتقالية إشكاليا:
ـ تم طرح المصطلح مبكرا دون تحديد المؤسسات المسؤولة عن الجرائم والانتهاكات وكيفية إجراء المحاسبة.
ـ تم طرحه مبكرا دون مراعاة السياق التطوري المتواصل
ـ لم يتم لدى طرحه الفصل بين الانتقال والمحاسبة.
ـ تم طرحه على أساس سقوط النظام وبالتالي إغفال نموذج الانتقال السياسي الذي ستتوصل إليه الأطراف السورية.
من ذلك تتأتى ضرورة إعادة بناء رؤية جديدة لعدالة انتقالية تكون متناسبة حصرا مع التجربة السورية وخصوصيتها بدلا من استعارة نماذج طبقت في مناطق أخرى. أما بالنسبة إلى السياق ونقطة البدء فهناك وجهات نظر متعددة بعضها يرى أن نقطة البدء يجب أن تكون في عالم (2011) أي العام الذي بدأت فيه الأحداث. بعضها يرى أنه يجب أن تبدأ منذ سيطرة حزب البعث عام (1963)، بينما بعضها الآخر يرى أن نقطة البدء يفترض أن تكون منذ الوحدة مع مصر (1958) وبعضها يرى أن نقطة البدء يجب أن تكون عام (1920).
السبب في اختيار هذه الأعوام تحديدا هو لأنها تمثل منعطفات في تاريخ البلد من حيث جسامة الانتهاكات المرتكبة بحق الشعب السوري.
المجتمع المدني واقتراحات بخصوص العدالة الانتقالية
ـ بناء سردية أكثر وضوحا لما حدث في سوريا وتحديد الأطراف المسؤولة عن الانتهاكات منذ بداية أحداث 2011 بالاعتماد على التوثيق مهني، رواية كل الأطراف، الأرشيف والاعترافات.
ـ تأسيس هيئة العدالة والمصالحة وجبر الضرر في المرحلة الانتقالية وتحديد مهامها وآليات تطبيقها، واعطاءها الصلاحيات والامكانيات ضمن الدستور لتقوم بتنفيذ المهام الموكلة لها بمحاسبة المجرمين من كافة الأطراف والعمل على عودة المهجرين وتعويضهم وتطبيق مسارات العدالة بشأن كافة الانتهاكات تطبيقا عادلا يضمن تحققها فعلا.
ـ ضرورة وجود إطار دستوري للإشراف على مؤسسات تنفيذية عديدة تضمن كل منها تحقيق العدالة والمصالحة وجبر الضرر في المرحلة الانتقالية ضمن مجالها الاختصاصي. مثال ذلك ملفات المعتقلين والمختطفين والمغيبين، الانتهاكات العسكرية، انتهاكات حقوق الانسان، والانتهاكات العقارية
ـ الأخذ بعين الاعتبار بروز مطالب جديدة من العدالة متعلقة بالملكيات العقارية، وجزء كبير منها يخص النساء، مما يتطلب حلولا إدارية وفق قانون إداري
ـ النظر إلى انتهاكات العقد الأخير من الزمن على أنها نقطة البدء في مسار المحاسبة دون إهمال المراحل الزمنية الأخرى، وتعيين لجان مختصة بكل مرحلة زمنية للعمل في مسارات للمحاسبة بحيث يكون عمل كل منها متواز مع عمل اللجان الأخرى.
عندما تتم مناقشة العدالة الانتقالية ونماذج التغيير السياسي في سوريا تتم مناقشة مسارات العدالة الانتقالية في تجارب أخرى من العالم وكمثل على ذلك تجربة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث غابت محاسبة جميع الأطراف وتجربة ما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وما أعقبها من حراك. أما نماذج التغيير السياسي في التجارب العالمية الأخرى فهي إما انتقال هادئ، أو حالات صراع، أو حالات تفاوض وهي حالات أثرت في مقاربات العدالة الانتقالية فهذه إما أن تكون انتقاما عنيفا لطرف يرافقه انتصار لطرف آخر أو نسيان للماضي مع اغتنام الفرصة لعقد صفقات سياسية بين جميع الأطراف الداخلة في النزاع.
النموذجان لا يصلحان، وفق اللجان الدستورية المنبثقة عن المجتمع المدني، لتحقيق العدالة في سوريا. فالنموذج الأول، وهو الإنتقامي العنيف، يعطي شعورا مؤقتا بالعدالة، ولكنه يفقد البلد حالة السلم، والنموذج الثاني، وهو موقف التغاضي، يشكل خطرا كبيرا حيث إنه لا يمكن معالجة الماضي دون تحقيق عدالة. كما إن عدم المطالبة بالمحاسبة والتغاضي عن الجرائم يناقض الهدف من الحراك الذي طالب عند انطلاقته بالتغيير وتحقيق العدالة. من هنا تأتي ضرورة تبني سياسات الحق والإنصاف وتأسيس قانون يطبق على الجميع وإنشاء محاكم مختصة للمحاسبة
المشروع الوطني الديمقراطي في سبعة محاور
المسائل الواردة في الملخصات الحوارية السبع (هوية الدولة، اللامركزية، تمكين المجتمع المدني في الدستور، فصل الدين عن الدولة، حقوق المرأة، حل المسألة الكردية، والعدالة الانتقالية) التي أعدتها اللجان الدستورية من كتلة المجتمع المدني تمثل معضلات بحثية شائكة وليس من الممكن مناقشتها جميعها بالتفصيل. فكل محور منها يحتاج إلى بحث مطول على انفراد.
ما يمكن ملاحظته بصورة عامة هو أن مناقشات وصياغات تلك المحاور وإن بدت متوافقة مع معايير عالية من الشفافية فهي تحتاج إلى وضوح أكثر وإعادة صياغة في بعض النقاط.
المشروع الوطني الديمقراطي وصياغة مسألة الهوية (علمانية، وطنية، وجامعة)
المشروع الوطني الديمقراطي يبدأ من الهوية. ووفقا لأعضاء كتلة المجتمع المدني تتميز الهوية السورية بأنها متنوعة، متراكبة، مكانية، دينية، أيديولوجية وجنسية ولذا لا يمكن فرض هوية واحدة على سوريا. من هنا يتمثل التحدي الأكبر في بناء هوية وطنية جامعة، وإعلاء مبدأ العيش المشترك فوق المصالح السياسية، وعدم الخلط بين الهويات الثقافية والكيانات السياسية فلا يجب أن تكون هوية الدولة حزبية أو قومية أو شمولية، بل يجب أن تكون علمانية لا دينية تحترم التنوع وتبنى بالاعتراف المتبادل لا بالإلغاء.
غير أن أخطر تحد قد يعرقل تثبيت مثل هذا المفهوم الجديد للهوية هو الموقف السلبي الشائع من فصل الدين عن الدولة. النظرة السائدة إلى مسألة فصل الدين عن الدولة هي نظرة عدائية إلى حد كبير، فالسواد الأعظم من الفئات الشعبية يعتبر أن العلمانية عداء للدين. وما يزيد من خطورة هذا التحدي هو أن الفئات المسيطرة باسم الدين تستفيد من هيمنة الدين وانتشاره طالما الدين كان ولا يزال محركا للتقسيم والعنف.
من هنا قد نستطيع تعليل سبب تسليم اللجان الدستورية عن المجتمع المدني بمسألة إدراج الدين في التربية والتعليم في صياغات الدستور. وكأن إدراج مادة التعليم الديني في المناهج الدراسية بات أمراً “مفروغا منه” في سوريا المستقبل. هذا النوع من التسليم بالأمر الواقع قد يفسر اكتفاء اللجان الدستورية بالتزامها موقف الاعتدال وطرحها التوصية التالية:
“متابعة المفاهيم الدينية في حياة المجتمع وفي التربية والتعليم لتجنب وجود أي مفاهيم سلبية تبتعد عن جوهر القيم الإنسانية”. إن إدراج التعليم الديني ليس أمرا بديهيا ويجب بالتالي أن يكون اختياريا هذا من جهة. من جهة ثانية لابد من نشر الوعي بين فئات الشعب بأن حيادية الدولة عن الأديان والمعتقدات لا تعني مطلقا العداء تجاه الدين. وليس نشر الوعي عن العلمانية كتيار معرفي كافيا. فالتوعية عن العلمانية لا تقتصر على اجتهادات نظرية وأفكار ونقاشات، بل هي سيرورة من العمل المنهجي. ما نحتاج إليه الآن هو العلمانية كأسلوب حياة. بمعنى آخر ينبغي أن يُمَنْهَج التيار العلماني لتحقيق انتقال ديمقراطي ولا ديمقراطية بلا علمانية. أما القول الشائع بأن المؤسسة الدينية ممثلة للحقيقة المطلقة وأنها الوحيدة التي تناط بها الأدوار في مجتمع علماني فهو مجرد وهم.
الملفت للنظر هو أن الانقسام السائد بشأن تبني الدولة مفهوم العلمانية ليس منتشرا فقط وسط القاعدة الشعبية الواسعة، بل وإنه أيضا سائد ضمن اللجنة الدستورية الموسعة. مثل هذا الانقسام يمكن تخطيه بالتفاهم وبالإجماع أي بتحقيق إجماع شعبي على مسألة العلمانية والهوية عبر التفاهم. فالعلمانية كمنهج ديمقراطي لا يجب أن تقتصر على تساو في النسب لدي التصويت، بل ينبغي كما ذكرنا أعلاه أن تتحول إلى مسار فعلي أي Praxis.
المشروع الوطني الديمقراطي وصياغة محور اللامركزية
المشروع الوطني الديمقراطي لن يتحقق إلا بالديمقراطية وتكون الديمقراطية في نظام للإدارة يشارك وفقه المواطنون مباشرة في القرار وفي إدارة الاقتصاد والإنتاج في دولة لامركزية.
مسألة اللامركزية والتحذير من بناء اللامركزية على أسس طائفية. حيث إن الصراعات التي نشأت على أساس ديني ومذهبي في فترة الحرب لا يمكن أن تشكل مرتكزات للحدود الإدارية في الدستور الجديد.
اللجان الدستورية من هيئات المجتمع المدني تنبه إلى ضرورة إيلاء الاهتمام للمناطق الكردية ضمن الحدود الإدارية لسوريا، وهي مناطق لا تعبر عنها الإدارة الذاتية الموجودة حاليا لكونها إدارة حزبية. الأمر الذي لم توضحه المناقشات الدستورية هو بأية طريقة يتم إيلاء الاهتمام لتلك المناطق. وكيف تتم إعادة الخريطة الديموغرافية إلى حالتها ما قبل اندلاع الحراك؟
المشروع الوطني الديمقراطي وصياغة مسألة العدالة انتقالية أم إنتقامية؟
المحور الآخر الذي يتمظهر من خلاله المشروع الوطني الديمقراطي في مناقشات وصياغات اللجان الدستورية هو محور العدالة الانتقالية.
هنا يطرح سؤال الدجاجة والبيضة الذي تحتد حوله ردود الأفعال في الساحة السورية.
ما الذي يجب تحقيقه أولا، تداول السلطة أم الانتهاء من صياغة الدستور؟
هنا يأتي الخلاف بين القوى المتعارضة (والمتفاوضة) في البحث عن حل في سوريا. بعض القوى لا تعترف باللجان الدستورية ولا بالمسار الدستوري ولا ترى لكليهما تأثيرا على حل القضية السورية. لا بل إن القوى المناوئة للمسار الدستوري تنظر إلى العملية الدستورية على أنها مجرد «مضيعة للوقت» وعلى أنها أداة لقطع الطريق أمام أية عملية انتقالية. فما تحتاج إليه سوريا اليوم هو الاتفاق على مرحلة «علاجية» انتقالية للبلاد التي عانت من دمار بشري واقتصادي، وتحتاج إلى خروج النظام الذي ساهم في تدميرها لإنجاز هذا التعافي
لجان المجتمع المدني تتمسك بالمسار الدستوري، ولكنها تحذر من الاقتداء بتجارب بلدان أخرى بدعوى أن شكل النزاع في سوريا مختلف. مع ذلك نقرأ في المراجعات والمناقشات توصيات بالاستفادة من بعض تجارب البلدان الأخرى كتجربة دايتون.
صحيح أن اتفاقية دايتون أحلت السلام في البوسنة، ولكنها قسمت البوسنة. إن تطبيق قانون دايتون في سورية قد يعني التقسيم وخاصة أن التقسيم هو الغاية من التدخل الأجنبي في سورية اقتراح تطبيق ذلك القانون يتناقض مع المطلب الدستوري بالالتزام بوحدة الأراضي السورية. أما فيما يتعلق بالانتقال فإن اللجان الدستورية عن المجتمع المدني تقترح خلال مناقشاتها تطبيق مسارات العدالة إزاء كافة الانتهاكات تطبيقا عادلا يضمن تحقيق العدالة فعليا لكنها لا توضح نموذج الانتقال وكيف يكون عادلا.
كتلة المجتمع المدني في اللجنة الدستورية تتجنب استعمال مصطلح العدالة الانتقالية في مناقشاتها وصياغاتها الدستورية وتكتفي باستعمال مصطلح العدالة. هنا لابد من لفت النظر إلى أن هذا الموقف يأتي على خلفية التعارض بين المعارضة من جهة والحكومة من جهة أخرى بشأن المصطلحات. من الخطأ أن تتنابذ الآراء حول انتقاء المصطلحات لأن مسألة العدالة ذات أهمية فائقة واختيارها في الصياغات الدستورية ولذلك لابد من الاتفاق على مصطلح واحد.
الوضوح مطلوب في اختيار المفاهيم التي سترد في الصياغات الدستورية يوضح كيفية الانتقال من حكم استبدادي إلى نظام العدالة لا سيما وأن انتهاكات جسيمة لحقوق تحدث في سوريا. العدالة الانتقالية تقدم اعترافا بحقوق الضحايا وتقوي سيادة القانون والديموقراطية مما يتطلب تقصي الحقائق ونشرها وإقامة محاكمات لمجرمي الحرب والكشف عن الحقيقة وتوثيقها، مما يعرف باسم “لجان تقصي الحقيقة” على غرار محاكمات نورمبرغ. هذا النوع من العدالة الانتقالية يتطلب وقتا وعملا منظما ويمكن تحقيقه سلميا مالم تتعرض اللجان ذاتها للانتهاك المنهجي.
لنتذكر تجربة رواندا بين عامي 1991 و1994 حيث أسفرت الحرب الأهلية بين الهوتو و التوتسي عن مقتل حوالي مليون رجل وامرأة وطفل. بعد انتهاجها العدالة الانتقالية أصبحت راوندا من بين الاقتصادات العشرة الأكثر نمواً في العالم.
ولنتذكر تجربة غامبيا وكيف أنه بضغط من مجلس الأمن تم إرغام يحيى جامع على التخلي عن السلطة بعد حكم ديكتاتوري للبلاد دام عشرين عاما (عام 2017) بعد زوال حكم الديكتاتور منحت الحكومة الجديدة تعويضات لضحايا الديكتاتور جامع مباشرة من ثروته وأصوله. العراقيل إذا جزء لابد منه في سيرورة التحول الديمقراطي ويمكن تخطيها عن طريق الاتفاق السوري ـ السوري فيما يخص وإيجاد محددات دستورية وتأسيس منظمات وهيئات تحقيق العدالة في المرحلة الانتقالية وتنفيذ آليات جبر الضرر والمصالحات ودعم أسر المعتقلين. ومهمة للمجتمع المدني هي أن يضطلع بمهمة كشف الانتهاكات التي ترتكبها كافة الأطراف وأن يفعل ذلك باستقلالية تامة بعيدا عن أي استقطاب من القوى المؤثرة في القرار في النزاع السوري.
الرؤية الواضحة للمشروع الوطني الديمقراطي تقتضي إجراء إصلاحات فعالة في الوضع السوري فإن فشلت محاولات الإصلاح فهذا يعود إلى أن الأسباب لم تعالج بعد، خاصة وأن الحكومة والمعارضة متورطتان معا في ارتكاب الانتهاكات و الحكومة من جهتها تتخذ موقفا سلبيا من مسألة المحاسبة، بل وإنها تقدم الحصانة لموظفيها وعناصر أمنها كي يمعنوا في الانتهاكات مستفيدة من تغافل المحافل السياسية الدولية.
المشروع الوطني الديمقراطي وتثبيت الأسس القيمية الكبرى
من السهل أن يلتف النظام الحاكم على الدستور الجديد فيعدل من مواده ويشطب من بنوده ويخرق من مبادئه تبعا لحاجاته وأهوائه. وهذا فعلا ما أثبتته التجارب التي مرت بها الأمة السورية على مدى عقود. فما الذي تعنيه صياغة دستور جديد الآن بينما المتفاوضون على عملية التغيير لم يدخلوا بعد في طور الاتفاق على الشكليات والهيكليات في التمثيل والتفاوض والتمويل والنظام السياسي القائم ما زال لا يتضعضع قيد أنملة من سدة الحكم؟
المسار الدستوري ما زال متعثرا. جلسات اجتماعات اللجان الدستورية السورية في جنيف لا تحرز أي تقدم ليس فقط لاختلاف في وجهات النظر بين المشاركين في المباحثات، بل وأيضا لوجود حالة من التسليم بأن المسار يستغرق وقتا أطول من اللازم ولذلك محكوم عليه بالفشل.
المفاوضون يقدمون أوراقا مختلفة للمفاوضات وآراؤهم منقسمة. إبان الجولة السابعة مثلا كانت ورقة منظمات المجتمع المدني المستقلة متمحورة على مسألة العدالة. في حين أن ورقتي وفدي اللجان المرتبطين بالنظام وبالمعارضة تمحورتا حول أساسيات الحكم وهوية الدولة.
المفوضون يخلطون بين أهداف التفاوض وعملية التفاوض نفسها، والأطراف الخارجية (الأجنبية) المشاركة في المفاوضات لا تفعل من شيء سوى أن تدعم الديكتاتورية الحاكمة وبذلك تزودها بالشرعية التي يحتاجها النظام بسبب موقعه الاحتكاري في الدولة ووحشية انتهاكاته لحقوق الإنسان وبدون هذه الشرعية لا يمكنه الاستمرار في الحكم إلى أجل غير مسمى. ومن هنا يجدر بالفاعلين في مسار التغيير السلمي الديمقراطي وصياغة الدستور ألا يقدموا الفرصة لأي نوع من التسويف عبر المماطلات والتأجيل وخلط الأوراق.
الدور الذي يضطلع به المجتمع المدني في مناقشة الدستور وصياغته ذو أهمية كبيرة خاصة إذا علمنا أن الدساتير السابقة في سوريا ومنذ انهيار السلطة العثمانية كانت شكلية، أي لم تكن دساتير بمعنى الكلمة، بل كانت مجرد مشاريع دساتير ولم تكتب بيد الشعب، بل بيد لجان عينها مجلس عسكري، أو حاكم فرد، أو جهات حزبية. الشعب لم يتح له أن ينخرط فعليا في عملية دستورية حقيقية تتوافق مع المعايير الديمقراطية، لكن التحديات التي تعترض عمل اللجان الدستورية عن المجتمع المدني كبيرة وحالة التشرذم في المواقف والآراء تزيد من طول المدة الزمنية لمسار العملية الدستورية وقد يكون هذا الامر طبيعي خاصة إذا ما تذكرنا التجارب الدستورية لدول أخرى وكيف اعترضتها الصعوبات وبدت محكومة بالفشل.
لنتذكر على سبيل المثال دستور البرتغال 1976 الذي استغرق إعداده عاما كاملا واقتضى إعادة السلطة من حكومة عسكرية إلى مدنية. كذلك الأمر مع دستور إسبانيا ما بعد فرانكو 1973, ودستور البرازيل 1988. ولعل ما يزيد الأمر صعوبة في التجربة الدستورية في سورية الآن هو أن لجان المجتمع المدني هي المكلفة بإعداده. وعلى الرغم من أن المسار الدستوري مازال مادة للتجاذب والتفاوض السياسي والتعثرات فإن دور الجمعيات المدنية والحقوقية المستقلة من المجتمع المدني هام جدا لكونها مؤسسات حيوية قادرة على تعبئة المواطنين وضمان حق التجمع السلمي وفرض الرقابة مستقبلا على النظام وممارسته للسلطة. من هنا لابد من تمكين المجتمع المدني دستوريا نظرا لمدى صعوبة وتعقيد وخطورة عمل منظماته والتحديات الجسيمة التي تواجهها من ضغوط سياسية ومالية.
إن دور الجمعيات الحقوقية والمدنية هام جدا في بناء العقد الاجتماعي الجديد وتحقيق المشروع الديمقراطي ولذلك يجب أن تتمتع هذه المجموعات بدرجة عالية من الوعي وأن تلتزم بمعايير سلوكية خليقة بدورها السياسي في عملية التغيير. لكن السؤال هو: ما لسبيل إلى تثبيت وتعريف دور حقيقي لمنظمات المجتمع المدني في بناء الدولة والمجتمع والتنمية من منظور علماني لاديني إن كانت تلك المنظمات تتعرض لمحاولات استقطاب من النظام، والمنظمات، والقوى العشائرية والدينية؟ وبالتالي كيف يتحدد الوضع القانوني لهيئات المجتمع المدني في الدستور بعيدا عن أي ضغط من تلك القوى والمنظمات؟
مسألة تمكين المجتمع المدني وتفعيل هيئاته عبر التمويل تحتل موقعاً مركزياً
احتلت مسألتا الصفة الاعتبارية والتمويل موقعا مركزيا في مناقشات أعضاء كتلة المجتمع المدني في اللجنة الدستورية. فالتمويل حاسم في تفعيل عمل هيئات المجتمع المدني خاصة وأن مساحة العمل المدني مشروطة بالموارد المالية. النقطة الأولى الهامة في نقاش مسألة التمويل تتمثل في تحديد موارد تمويل المنظمات المدنية ومشاريعها، سواء أكانت محلية أو خارجية، وتحديد أهداف التمويل. فأهداف التمويل يجب أن تكون واضحة ضمانا للشفافية وحفاظا على استقلال منظمات المجتمع المدني.
النقطة الهامة الأخرى هي تثبيت صفة اعتبارية لمنظمات المجتمع المدني في الدستور كي تتمكن من المرافعة في الشأن العام وباسم الحق العام. لأن تمكين المجتمع المدني دستوريا بالترخيص للجمعيات المدنية والحقوقية وضمان حق التجمع السلمي هما من أهم المبادئ الدستورية. فالمجموعات المستقلة من المجتمع المدني هي كما ذكرنا آنفا مؤسسات حيوية بالنسبة للديمقراطية لقدرتها على تعبئة المواطنين وفرض الرقابة مستقبلا على النظام وعلى ممارسته للسلطة. كما أن عمل هذه المنظمات معقد وخطير لأنها تواجه ضغوطا سياسية ومالية ولذلك ينبغي أن تتمتع بدرجة عالية من الوعي وأن تلتزم بمعايير سلوكية خليقة بدورها السياسي في عملية التغيير.
ربطا على مسألة التمويل والاستقلالية تبرز نقطة هامة أخرى وردت في النقاشات ألا وهي تصويب المفهوم الشائع عن المنفعة العامة أو مفهوم النفع العام وهو مفهوم خاطئ.
فالدولة أشاعت أنها هي حامية النفع العام مع أنها تفتقر إلى معايير الحدّ الأدنى لحماية حقوق المواطنين في سوريا. خير مثال على ذلك القانون رقم 10 لعام 2018 الذي رخص بإنشاء مناطق تنظيمية في جميع أنحاء سوريا، تحت ذريعة إعادة الإعمار. وما أتاح تفعيل هذا القانون هو ما تسببت به الحرب من أضرار بممتلكات المواطنين. وفقا لوكالة الأمم المتحدة للاجئين أدت الحرب إلى نزوح أكثر من 11 مليون سوري ولجوئهم إلى دول مضيفة منذ بداية الصراع. كثير من هؤلاء لا يستطيعون العودة إلى عقاراتهم كي يقدموا بأنفسهم مطالبة بملكيتهم وإثباتا لها. كما لا يستطيعون تقديم طلبات إثبات الملكية بأنفسهم أو تعيين وكيل عنهم معترف به قانونا كالأقارب مثلا لاسيما وأن الأقارب في عدد من الحالات تعرضوا لدى المطالبة إلى التهديد من القوى الأمنية المتواجدة في المكان. فالسلطات السورية استخدمت التنظيم العمراني لإجراء عمليات هدم واسعة النطاق وإخلاء المباني والاستيلاء على الممتلكات وتهجير السكان و أيضا لمعاقبة عدد هائل من المدنيين غير الموالين لها.
أهمية مسألة الحوكمة وتثبيت مبدأ سيادة القانون في الدستور الجديد
مع أن ملف سيادة القانون كان قد طرح للنقاش في اليوم الثالث من اجتماعات الدورة السادسة للجنة الدستورية المكلفة بصياغة دستور جديد في جنيف منذ أكتوبر 2021، لم تنجز صياغات نهائية لهذا الملف في مناقشات الورش الفكرية التابعة لكتلة المجتمع المدني كما أنه غاب من أرشيف المناقشات في موقع نواة. رغم أن سيادة القانون مبدأ دستوري أساسي وجزء مهم جدا من الدستور الجديد وأحــد مبــادئ الحوكمــة الذي “يعتبــر جميــع الأشخاص، والمؤسســات، والكيانــات، العامــة والخاصــة، بمـا فـي ذلـك الدولـة ذاتهـا، مسـؤولين أمـام القوانيـن، التـي تصـدر علنـا، وتطبـق علـى أسـاس مبـدأ المسـاواة، ويجـري التقاضـي بهـا علـى نحـو مسـتقل، وتكـون متسـقة مـع المبـادئ والمعاييـر الدوليـة لحقـوق الإنسان” لذا كان من الحري أن يناقش هذا المحور باستفاضة وأن تنشر عنه صياغات محكمة فهو أحد المثل العليا للأخلاق السياسية وتطبيقه يقتضي الإنصاف في حماية الحقوق ولتحقيقه في سورية لابد من تحرير مؤسسات الدولة من هيمنة السلطة البعثية وأجهزتها وتحويل هذه إلى مؤسسات للسوريين كلهم. وعند تحويل المؤسسات (تحريرها) ومراقبة سلوكها وشرعيتها والحرص على أن تكون دائما في خدمة السوريين وأن تحمي حقوقهم يتحقق مبدأ سيادة القانون.
أهمية الرؤية الواضحة للمسألة الكردية
تبدو القضية الكردية شائكة والعقبات أمام حلها عديدة. ما يزيدها تعقيدا هو أن هناك قضية كردية في تركيا، قضية كردية في تركيا وقضية كردية في العراق وقضية كردية في سورية وقضية كردية في إيران وفي كل جزء من الأجزاء لم يتم التوصل بعد إلى حل للمسألة ترضى عنه كافة الأطراف وبالتالي من الصعب حسم وجهي المسألة قومي / مواطني. من جهة أخرى يواجه الأكراد وتحديدا ممثلو “المجلس الوطني الكردي” منذ الاجتماع التأسيسي له في إسطنبول 2011، يواجهون المشروع الديمقراطي لسوريا الموحدة بالتشكيك ويصرون على إقرار حقهم في تقرير مصيرهم كما أنهم يطالبون بالتعامل مع الأكراد السوريين بوصفهم شعبا يمتلك أرضا محددة، لهم حق الانفصال وتأسيس دولة، ولامركزية سياسية، حتى أن جزءا منهم يذهب إلى حد المطالبة بفيدرالية بل إن إعلاميا كرديا كتب معلقا على النقطة الرابعة من محضر مناقشات اللجان الدستورية عن المجتمع المدني أن التوصية بمنع الأكراد من تشكيل أحزاب قومية يعتبر نقضا لمبادئ الديمقراطية. لهذا يبدو أن حل المسألة الكردية في سوريا مرتبط بالحل الديمقراطي لسوريا ككل. أي بالمشروع الديمقراطي الشامل لكافة أفراد الشعب من عرب وكرد وسريان وأشوريين وتركمان، وأرمن، وشركس، وغيرهم. أما اللامركزية السياسية فلا يمكن أن تبنى على أسس طائفية وحزبية. حيث إن الصراعات التي نشأت على أساس ديني ومذهبي في فترة الحرب لا يمكن أن تشكل مرتكزات للحدود الإدارية في الدستور الجديد وإنما يتم إيلاء الاهتمام للمناطق الكردية ضمن الحدود الإدارية لسوريا، وهي مناطق لا تعبر عنها الإدارة الذاتية الحالية لكونها إدارة حزبية. ما لم توضحه المناقشات الدستورية هو الطريقة التي يتم بها إيلاء الاهتمام لتلك المناطق والتعامل معها وكيف تتم إعادة الخريطة الديموغرافية إلى حالة ما قبل الحراك السوري.
أهمية مسألة الحقوق وتثبيتها في الدستور الجديد
فيما يتعلق بمسألة المرأة وحقوقها، لا يمكن اقتراح الالتزام بالمواثيق الدولية للاتفاقيات الأساسية لحقوق الانسان المتضمنة هذه الحقوق واعتبارها أولوية معترف بها ما دامت موضوعا للتجاذب بين القوى الدينية والسياسية المختلفة. فالعائق الأكبر أمام تحقيق هذه التوصية هو ذاته الذي يقف في وجه العلمانية (فصل الدين عن الدولة) حيث أن العرف والشريعة والهشاشة القانونية تحول دون اعتبار النساء مواطنات فاعلات في المجتمع.
السؤال هو ما الذي سيضمن آليات عدالة انتقالية تضمن فعليا تطبيق مواطنة فاعلة للنساء حينما تكون الثقافات الدينية مسيطرة على القانون والقوى الدينية السائدة تحول الدين إلى حزب سياسي يريد إرغام الكل على الانضواء تحته؟
فيما يخص علاج آثار الحرب على المرأة والعدالة المتعلقة بالملكيات العقارية، وجزء كبير منها يخص النساء، فإن هذا الأمر يتطلب حلولا إدارية وفقا لقانون إداري. لكن الحلول الإدارية لا يمكن أن توضع موضع التطبيق إن لم يتم تغيير محتوى الدستور وخاصة تلك المواد المستندة إلى الشريعة الإسلامية فيما يخص الإرث والملكية العقارية.
الأمر ذاته ينطبق على مسألة الحقوق السياسية للمرأة ومشاركتها في الحياة السياسية. فما تم اقتراحه من منظومات كوتا ذكية لا يمكن أن يكون واقعيا مالم يستبعد العرف الديني من القانون وإلا فلا طائل من وجود محكمة دستورية لمراقبة وضبط القوانين ومنع التغييرات المحتملة للدستور.
أيضا ضمن مسألة الحقوق، كان من الحري مناقشة حقوق الطفل وتثبيتها في الدستور كمحور مستقل. مع أن قضية الطفل والطفولة في سورية لا نتفصل عن المناخ العام للبلد وحقوق الطفل هي جزء من منظومة الحقوق بشكل عام يعتبر الأطفال أكثر فئات الشعب تضررا من الحرب. وفي موضوع الطفل والمعاهدات الدولية يمكن قول نفس الشيء الذي ذكر فيما يتعلق بمسألة المرأة. فعلى الرغم من أن الحكومة السورية، وقعت على اتفاقية حقوق الطفل الدولية منذ عام 1993 مازالت حالة من ضمور سيادة القانون والعشوائية سائدة وما زال الطفل السوري يتعرض بشكل دائم لانتهاكات جسيمة لحقوقه وتكوينه النفسي والإدراكي، والجسدي، والصحي، والثقافي. خمسين بالمائة من أعداد النازحين واللاجئين السوريين هم أطفال والأطفال تعرضوا خلال الحرب لألوان من القتل العشوائي، الاعتقال التعسفي، التغييب القسري ـ التعذيب في السجون وأيضا الموت نتيجة استخدام السلاح الكيماوي. مئات من الأطفال قتلوا تحت التعذيب، مئات منهم يتعاطون التسول وأحيانا المخدرات، مئات منهم تعرضوا ومازالوا يتعرضون للاعتداء الجنسي والاغتصاب والخطف.
لابد إذا أن يكفل الدستور حقوق الطفل وحماية هذه الحقوق من الانتهاك وأن تتوفر لهذا الشأن منظمة متخصصة لا مجرد لجان منبثقة عن منظمات حقوقية عامة. وهنا تبدو منظمات مجتمع المدني، حتى وإن كانت ماتزال ضعيفة، المرشح الأفضل للاضطلاع بهذه المهمة.
محاور غائبة عن المناقشات والصياغات
مما غاب عن مناقشات اللجان الدستورية عن المجتمع المدني (المستقل) مسائل مثل شكل نظام الحكم، الجيش، والأمن، والتنمية، والبيئة. شكل النظام السياسي من المسائل الخلافية في مباحثات جنيف ولم تتناوله لجان المجتمع المدني (المستقلة) أو على الأقل لم تنشر مسودات لمناقشات عنها على موقع نواة. كذلك مسألة الجيش والأمن. ففي حين قدمت المعارضة بندا عن المسألة في الجلسة السادسة لم يقدم وفد المجتمع المدني أية توصيات بشأنها أو على الأقل لا يوجد أثر لهذا البند بين مجمل الملخصات المنشورة على موقع نواة. ما قدمه المجتمع المدني لدى الجلسة السادسة كان متمحورا حول بند سيادة القانون. أما مسألة الجيش والأمن لم تتم مناقشتها ولم تطرح توصيات بصددها. إنما ورد عنها تنويه عرضي لدى مناقشة مسألة اللامركزية وكان التنويه عبارة عن دعوة إلى ضرورة التوصل إلى توافق بين ما دُعيَ “المركز والمناطق على الصلاحيات المتعلقة بالجيش والخارجية والأمور التي تعتبر سيادية”. إنما كمحور قائم بذاته لم تطرح المسألة على طاولة النقاش ولا صدرت بشأنها توصيات، والسؤال هو لماذا لم تناقش مسألة الأمن والجيش ولماذا لم توضع توصيات بشأن إعادة الهيكلة أو حل الفصائل أو دمجها أو نحو ذلك؟ وكيف السبيل إلى حماية البلاد من تغول الجماعات المسلحة وتعديات الجيش والأمن إن لم ينص الدستور على مبادئ واضحة بهذا الشأن؟
طالما أن التوصيات بإخضاع الأجهزة الأمنية والعسكرية لأحكام الدستور ولرقابة السلطات المدنية غائبة وطالما لم ترد اية توصيات بالحد من تدخل الأجهزة الأمنية في الشؤون الحزبية والسياسية فإن صياغة دستور جديد وفرصة تحقيق مشروع وطني ديمقراطي في البلاد تبدو شبه مستحيلة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى مسألة التنمية والتنمية المستدامة، حيث نوقشت الموارد البشرية جزئيا (مسألة المرأة والجندرية في الحياة السياسية) لكن لم يرد أي اقتراح لاستراتيجيات للتنمية المستدامة اقتصاديا وبيئيا. هل يكون مبرر هذا الغياب وجود انهيار اقتصادي مطلق في سوريا ناتج عن انهيار الدولة بكل جوانبها؟ يشمل الانهيار تدهورا حادا في أسواق العمل، ازديادا في القيود على إمكانية الحصول على الخدمات العامة مثل الرعاية الصحية وإمدادات الكهرباء، تراجعات في النمو الاقتصادي، ارتفاع فادح في معدلات الفقر، قلة في الموارد وبالأحرى انعدام الموارد ونهبها على يد القلة من العصابات المسيطرة على الاقتصاد.
من ناحية أخرى لم ترد في المناقشات مسألة البيئة والمشكلات البيئية الخطيرة التي نجمت بعدما يزيد عن عقد من الحرب وعلى سبيل المثال الاضرار التي لحقت بآبار النفط والمصافي المؤقتة والاحتراقات العشوائية للمصافي المفتوحة والمسببة لأضرار كارثية على الانسان والحيوان والتربة والهواء واستخدام الاسلحة المتفجرة والكيمياوية وما نجم عنه من تلوث بيئي خطير. الوضع البيئي صار في حالة من التداعي صار معه البحث عن “حلول خضراء” أمرا طوباويا بل وشبه مستبعد إزاء الوضع الكارثي المتردي للحقوق والحريات وربما لهذا السبب لم تحدث مناقشات عن البيئة والتنمية المستدامة لأن المنظمات المخولة البحث في الشأن البيئي، منظمات المجتمع المدني, منشغلة بأولويات أخرى كما وأنها تفتقر إلى التمويل وتثبيت نشاطها في الدستور. من هنا قد نفهم لماذا احتلت مسألة التراخيص والتمويل موقعا مركزيا في المناقشات الدستورية بما أن المجتمع المدني لا يمكنه من دون التمويل أن يضطلع بدوره المنتظر في دعم عمل الحكومة الجديدة ومراقبة عملها وتعبئة الموارد والطاقات البشرية وتحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة التحديات الكثيرة كالفقر والجهل والعنف، والعمل الثقافي والبيئي والاجتماعي والتنموي وتقييم الأداء وتحفيز العمل الخ، وهذا لن يكون ممكنا إن لم تتوفر الموارد الضرورية للمنظمات المدنية.
أهمية صياغة الدستور الجديد وتثبيت العقد الاجتماعي
في إرساء مشروع وطني ديمقراطي
قد يرى بعض المفكرين والباحثين أن صياغة الدستور أمر عبثي طالما التحرر من الاحتلال الخارجي والانتقال السلمي للسلطة لم يتحققا بعد. كثيرون يذهبون إلى أبعد من ذلك فيرون أن مناقشة الدستور هي مجرد مناقشات وأن كتابته أشبه بكتابة وثيقة يتم ركنها جانبا ما إن تنتهي صياغتها والمصادقة عليها. البعض قد يرى أن فكرة العقد الاجتماعي بحد ذاتها عبثية، خيالية ولا تستند إلى الواقع، وأنها غير صحيحة اجتماعيا وغير صحيحة قانونيا خاصة وأن العقد أو التوافق تلزمه قوة ملزمة لا تتأتى إلا بوجود سلطة تسهر على تطبيقها وحمايتها. مثل هذه الآراء تميل إلى المغالاة وتتجاهل أن الديمقراطية سيرورة والدستور سيرورة وفكرة العقد الاجتماعي في حد ذاتها سيرورة وأنها تاريخيا كانت حافزا لإنشاء الديمقراطيات الحديثة.
إن مناقشة الدستور وصياغته أمران لابد منهما لتحقيق رؤية واضحة لبنيان الدولة وللخروج من حالة “الأدغال الهوبزية” وتأسيس عقد اجتماعي جديد يتم معه إرساء المشروع الديمقراطي وحمايته. فالدستور هو صورة الأمة، سيد القوانين، حامي الحقوق والحريات، الناظم للعلاقات بين الحاكم والمحكوم، منظم أسس الدولة ومحدد شكلها. أهمية الدستور بالنسبة للأمة تعادل أهمية وجود الأمة ذاتها وتعادل أهمية كينونتها. كيف إذا ما تعلق الأمر ببلد دمرته سنوات الحربمثل سوريا؟ لذلك من الضروري ألا نتعجل الأمور ونطالب بحرق المراحل فالتسرع يزيد من الأوضاع سوءا بدلا من الدفع بها إلى الحل. إن صياغة دستور جديد لسوريا لا تقل أهمية عن العقد الاجتماعي المبرم اتفاقيا بين السلطة السياسية من جهة والأفراد والمنظمات الناظمة لهذا العقد من جهة أخرى. وفي صياغة العقد الاجتماعي من خلال الدستور الجديد لابد أن تتبدى رؤية واضحة للمشروع الوطني الديمقراطي بما يكفل حقوق المواطنين وحريتهم ويساعد البلد على الخروج من الحالة الغوغائية التي وصفتها أعلاه بأدغال هوبز.
عادة تخفى علينا الفترة التي تسبق تأسيس وإعلان الدستور وخلفيات ورشات العمل، حيث تحتدم المناقشات التي تسبق اعتماد الخيارات الأساسية للمحتوى الدستوري من مواد وبنود. كيف تكون الحال إذا مع دستور يعيد قراءة تاريخ أمة ويصيغ مستقبلها؟ مع ذلك ليس المنتظر في حالة الأمة السورية دستور جديد يصاغ في ردهات مغلقة ثم يوضع على الرف، بل إن المنتظر هو تحقيق الإجماع على انتقال سلمي نحو الحالة الديمقراطية. وإن حدث تعثر في مسار التغيير الديمقراطي والعمل الدستوري فهذا التعثر شبه بديهي خاصة وأن الغاية المنشودة هي الحل السلمي الشامل للخروج من الوضع الراهن للبلاد حيث الملايين قد غيبهم القتل والسجن والنفي، والملايين يصارعون للبقاء أحياء في واقع يومي أشبه بالموت منه بالحياة.
مسار الصياغة الدستورية هو حجر الأساس للانطلاق بالمشروع الديمقراطي لسورية الجديدة. وتحقيق العدالة الانتقالية ضرورة لابد من تحقيقها. ولكي تجري عملية الانتقال السلمي للسلطة، حتى وإن تلكأت ينبغي التركيز على الغاية وهي دولة مدنية ديمقراطية تعددية.
لتحقيق المشروع الديمقراطي وإنهاء نظام الحكم الشمولي لحزب البعث (الذي يمر الآن في مرحلة النزع الأخير ويشتري الولاء السياسي مقابل لقمة الخبز)، لابد من تضافر الجهود على الصعيد الداخلي لإتمام عملية الانتقال السلمي للسلطة ضمن مرجعية دولية واستعمال الإرادة السياسية الدولية كقوة ضاغطة حتى وإن بدت هذه غائبة كليا عن المسألة السورية.
من هنا تأتي أهمية عمل لجان ومنظمات المجتمع المدني المستقلة التي تؤدي دورها باستقلالية ونزاهة وأهمية تضامن كافة القوى معها لتحقيق عملية الانتقال والنجاح في التوصل إلى حل سياسي حتى يكون المسار الدستوري عبارة عن عملية تعزيز للتماسك الداخلي للأطياف الوطنية المتعددة بدلا من أن يكون تكريسا لمشروع انقسام.
فممثلي المجتمع المدني المنتدبين للمفاوضات منقسمين بحسب ولاءاتهم للنظام أو للمعارضة والقوى الدينية والعشائرية ولإغرابه والحال هذه في أن ترى وسائل إعلامية عديدة ومعها شريحة واسعة من القاعدة الشعبية أن لا جدوى من عملية المفاوضات وبالتالي لا جدوى من وجود اللجان ذاتها. لاسما وأن جلسات المفاوضات تنتهي واحدة بعد أخرى إلى الفشل والآن بعد الجلستين السابعة والثامنة مازال من غير الواضح كيف ستحقق للجان الدستورية عن المجتمع المدني تفعيلا لعملية الانتقال من الوضع السلطوي العنيف إلى الديمقراطي العادل طالما أن المجتمع المدني مقسم بحسب التبعية إلى وفود وكل وفد ناطق باسم جهة تختلف عن الأخرى وكل وفد يقدم أوراق عمل تختلف عما يقدمه الوفد الآخر. السؤال هو لماذا تمعن الأطراف المشاركة في عرقلة هذا المسار وإلى متى؟ وما الجدوى من أن يتواصل الحوار والتفاوض إن كان المجتمع المدني بحد ذاته مقسما إلى ثلاثة أقسام واحد تابع للمعارضة وواحد تابع للنظام وواحد آخر يحاول أن يكون مستقلا ونزيها؟ ماذا يفعل الوفد المستقل إزاء الوفد التابع للنظام عندما يقدم ورقة تكرس البنية الحالية للنظام وشكل الحكم؟ هل من المعقول تحقيق اتفاق حول المسائل المحورية الأساسية مثل “هوية الدولة” وأساسيات الحكم طالما أن وفد المجتمع المدني الناطق باسم النظام يسعى إلى تكريس البنية الحالية للنظام وشكل الحكم؟ وهل يمكن في هذه الحالة من تعدد الأصوات وتعدد التبعيات أن يرى النور دستور جديد؟ وأي نوع من الدساتير سيكون هذا الدستور؟