أجزمُ يقيناً أن النظام السّوري حين استجلبَ حزب العمال الكردستاني PKK من قنديل بعيدَ انطلاقِ الثّورة ، ثمّ سلّمهُ الشريطَ الحدوديّ مع تركيا – وقد كنت شاهداً على ذلك – لم يكنْ يعلمُ أنّ السحرَ قد ينقلبُ على السّاحر ، فيعودَ السّهمُ في نَحرِ راميه ، ويتحولُ الأمرُ إلى قضيةِ أمنٍ قوميّ تركيّ ، تُقرّ الولايات المتحدة الأمريكيّة بأحقّيتهِ ، ثم تسعى للتفاوضِ مع الأتراكِ من أجل حلّه ، وتخفيفِ حدّته.
حلٌ يبدو أنه لايتعدى أحدَ خيارَين اثنين ، منطقةً أمنيّةً حسبَ الحاجةِ التّركيّة ، أو منطقةً آمنةً حسبَ العرضِ الأمريكيّ ، وهو مايعني في كلا الحالتين أنّ الأمانة التي سلّمها لن تعودَ إليه.
تريدُ الحكومة التركية منطقةً أمنيّة تخدمُ أمنها القومي ، وتبعدُ خطرَ العمال الكردستاني عن حدودها ، ويريد الأتراكُ – في حزب العمال الكردستاني- على الجانبِ الآخر منطقةً آمنةً ، تحميهم من أيّ هجومٍ تركيٍ محتمل ، وتوفرُ لهم فرصَ الاستقرار وبناء هياكلهم الإداريّة والسياسيّة الدائمة ، وتمنحهم اعترافاً بوجودهم ككيانٍ سياسي مَحميٍ باتّفاقاتٍ دولية ، تشهدُ عليها الولايات المتحدة كمرحلةٍ أولى ، يمكن أن تتطورَ لاحقاً إلى اعترافٍ دولي بحكمٍ ذاتيٍ أو إقليمٍ فدراليّ ، في خضم صراعٍ مجهول النهايات على الذّبيحة السوريّة.
أما السّوريون الذين ثاروا على نظام الأسد ، و تعرضوا للتهجير والنزوح عن مدنهم وقراهم ، والشّتات المُذلّ في بلدان و مخيمات اللّجوء ، فلم يسألهم أحدٌ عن رأيهم فيما يجري من مفاوضات ، وفيما إذا كان لهم مطلبٌ يجب أن يدرجَ في قائمة الشروط؟ في تجاهلٍ واضحٍ لأبرز حقوق الإنسان ، المتمثلة في ضمان حقّه بالعودة إلى موطنه أياً كانت الظروف ، من دون أن يتغيرَ مركزُه القانوني ، أو يسقطَ حقُه فيه كمالكٍ شرعيّ له.
باستثناء تركيا التي جعلت من إعادة اللاجئين هدفاً ثانياً بعد أمنها القوميّ ، وهو هدفٌ يدخلُ أيضاً في بوتقةِ الأمن القوميّ على المدى البعيد ، فإن الولايات المتحدة لم تتطرق إليهم لامن قريبٍ ولا من بعيدٍ ، كما خلتْ قائمة العمال الكردستاني من أية إشارة إليهم ، بل إن قادة الحزب أعلنوا مؤخراً أنهم ضدّ إعادة اللاجئين أو عودتهم ، للحفاظ على ديمغرافية المنطقة حسب زعمهم ، قبل أن يصفهم رئيسُ الفرع السوري للحزب “شاهوز حسن” بالمرتزقة المرتبطين بتركيا ، مايعني أنهم ليس في واردِ التفكيرِ بعودةٍ طبيعيةٍ للّاجئين ، الأمرُ الذي يتطلبُ ضغوطاً دوليةً وأمريكيةً ، تجبرُهم على الإذعان لذلك.
إن اللّاجئين السّوريين حول العالم ، الذين قاربَ عددُهم السّتةَ ملايين ، و يقيمُ أكثرُ من نصفهم في تركيا ، وينتمي جزءٌ كبيرٌ منهم ، مناطقياً إلى مدنٍ وقرىً تقع ضمن إطار المنطقةِ الآمنةِ /الأمنيّةِ المزمعِ إقامتُها ، من حقّهم أن يعودوا إلى ديارهم ، سواء سُئلوا أم لمْ يسألوا عن رأيهم ، وسواءً أشارت إليهم اتفاقاتُ المنطقة الآمنة أم تجاهلتهم.
كذلك فإن من حقّ أقرانِهم في إقليم كردستان العراق ، الذين يزيدُ عددُهم عن ربعِ مليون لاجئ ، وتنتمي أكثريتُهم الساحقةُ إلى المنطقة ذاتها ، أن يعودوا أيضاً إلى مدنهم وقراهم وأراضيهم.
بلْ من حقّ كلّ أهالي الرّقة وديرالزور والحسكة ، الذين تقعُ ديارُهم خارجَ المنطقة الآمنة العودةُ إلى أراضيهم أيضاً ، مادامت محميّةً بالطائرات والوجودِ الأمريكي هناك ، وأن النظام لن يتجرأ على مهاجمتها.
عودةُ اللّاجئين السّوريين من أبناء المحافظات الثلاث ، يجب أن تكونَ أولويةً في قائمة المفاوضات الجّارية بشأن المنطقة الآمنة ، وبضماناتٍ دولية.
قضيّة اللاجئين السّوريين باتت ملحةً أكثر من أي وقتٍ مضى ، وتأمينُ موطئ قدمٍ لهم على أرضهم باتَ أمراً ضرورياً جدّاً ، في ظل تغيّر مزاجِ الدول المضيفة تجاههم.
فالدولُ ليست جمعياتٌ خيرية ، والحكوماتُ ليست أبدية ، والمسؤولون المتعاطفون مع اللاجئين قد يحلّ مكانهم آخرون أقل تعاطفاً ، أو ربما آخرون غير متعاطفين أبداً.
إن عودة جزءٍ من اللاجئين تخفف الضغطَ الذي تتذرعُ به الدول المُضيفة ، وتفتح آفاقاً جديدة في مسيرة الثورة ، وربّما تعجّل في إنهاء النظام أيضاً ، إذا ما تمّ إثباتُ واقعٍ يستحيلُ عليه تجاوزه.
وأمنيّاً تحقق عودةُ اللاجئين إلى مدنهم استقراراً يكونون جزءاً من تثبيتهِ وتقويتهِ ، خاصةً إذا ماترافق مع تحسّن الوضع الاقتصادي ، وإعادةِ الإعمار التي تسعى إليها الولايات المتحدة في تلك المناطق ، بعد أن تمّ القضاءُ على تنظيمِ داعش.
كما أن عودة اللاجئين تبعثُ برسالة اطمئنانٍ لطرفي الاتفاق ، بمضمونٍ يهدف إلى تطبيع الأوضاع وعودتِها إلى سياقها الطّبيعي ، في ظلّ توازناتٍ اجتماعية وديمغرافية عاش عليها السّوريون عقوداً طويلة.
ومن جانبٍ آخر ، فإن تجاهلَ هذه القضيّة يعني أن الاتّفاق ماهو إلا هدنة حربٍ تبقى مهددةً بالانهيارعند كل منعطف ، وتأجيلٌ للصّراع لايلبثُ أن يعود في ظلّ تبدّل السياسات ، وتغيّر التّوازنات الدّوليّة.
كما أنه سوف يهيئُ لحرب أهليةٍ بين المكون العرقي الذي يسيطر على المنطقة عسكرياً ، والذي يمثله العمال الكردستاني ، وباقي مكونات المنطقة التي سوف تجدُ نفسها محرومةً من العودة ، الأمر الذي لن تستكين له بالتأكيد ، وسوف تقاتل ضده بكل وسائلها ، وهو ماسوف يدخلنا في متاهةٍ جديدة ، نحن بغنى عنها ، وعلينا أن نكون متيقظين من الوقوع في شَرَكِها.