نزار آغري
قررت إيطاليا استقبال شربات غولا، الفتاة الأفغانية التي نالت الشهرة، بعينيها الخضراوين، التي تصدرت صورتها غلاف مجلة ناشيونال جيوغرافيك، عندما كانت صغيرة تعيش في مخيم للاجئين. ستقوم الحكومة الإيطالية باستقبالها و”مساعدتها على الاندماج في الحياة بإيطاليا”. واستقبل وزير الخارجية الأميركي، أنطوني بلينكن، الفتاة الباكستانية ملالا يوسف زاي، الأصغر سناً على الإطلاق بين حائزي جائزة نوبل للسلام، وقال إنه من دواعي سروره أن “تكون ملالا في وزارة الخارجية بواشنطن”. وكانت نادية مراد، الإيزيدية التي تمكنت من الهرب من أَسر تنظيم “داعش”، نالت هي الأخرى جائزة نوبل للسلام.
هذه الوجوه الثلاثة تكرست كشخصيات حاضرة في صالة استقبال الكرة الأرضية. كن ضحايا واقع أليم لقين فيه، ومنه، مصيراً مأساوياً. لم يقمن بعمل خارق أو ابتكرن مأثرة إبداعية. القدر وضعهن في المكان الخطأ، في الزمان الخطأ. الشيء الوحيد الذي استطعن القيام به هو النجاة من الموت. تحقق ذلك بتضافر الحظ وغريزة البقاء وجهود آخرين.
كانت شربات وآلاف الفتيات الأفغانيات ينتظرن الخروج من أفغانستان هرباً من طالبان. وملالا كانت في طريقها إلى المدرسة مع عشرات من رفيقاتها حين انقض عليها إسلاميون متطرفون وأطلقوا النار عليها. وناديا التي وقعت في قبضة إرهابيي “داعش” تمكنت، مثل عشرات “السبايا” الإيزيديات، من الهرب.
إذا كانت ثمة بطولة فهي تلك التي أظهرها أولئك الذي ساهموا في إنقاذهن. الصحافي الأميركي الذي خلّد وجه شربات وأطلق عليها اسم “موناليزا أفغانستان”، والحكومة البريطانية التي أنقذت ملالا وأرسلتها في طائرة خاصة إلى لندن لإنقاذها من موت أكيد ومن ثم منحتها الإقامة، هي وعائلتها، والفرصة للإلتحاق بجامعة راقية. ومقاتلات ومقاتلو ومقاتلات حزب العمال الكردستاني الذين، واللواتي، أنقذوا وأنقذن، الإيزيديات والإيزيديين، من موت أكيد (شبه إبادة) بعدما تركهم بيشمركة البارزاني وهربوا مع أسلحتهم. الصدفة والصحافيون وجملة من العلاقات العامة وعناية الحكومات الأوروبية، كل هذا جعل من هذه الفتيات إيقونات لامعة في السماء.
ليس في ذلك أي ضير بطبيعة الحال. الضير هو إسباغ الصفات الأسطورية عليهن ورسمهن كما لو كن بطلات خارقات ومناضلات ملهمات، وإطلاق ألقاب طنانة عليهن من قبيل موناليزا أفغانستان وجان دارك الباكستان ولبؤة سنجار. هذه مبالغات فجة لا تعكس واقع الحال.
لكن تلك هي، كما نعرف، أصول اللعبة التي تجري بأناقة وإتقان في أوروبا. لعبة إبراز وجوه بعينها في لحظة معينة وتلميع صورها بحيث تبدو كما لو أنها خرجت تواً من أروقة هوليوود. الغاية هنا هي إنتاج قيمة معنوية ورمزية لأشخاص يفتقرون/ن إلى القيمة في بلاد تئن تحت الموت والخراب.
لكن ماذا عن الأدب؟ الأدب الذي نسطره في هذه البلاد التي لا تعطي قيمة لأحد؟
قبل عامين، فازت جوخة الحارثي بجائزة “بوكر مان الدولية” عن روايتها “سيدات القمر” بترجمة إنكليزية أنجزتها مارلين بوث تحت عنوان “أجرام سماوية”. كانت الرواية، وعنوانها الأصلي “سيدات القمر”، صدرت بالعربية عن دار “الآداب” العام 2010. هكذا، بعد تسع سنوات، تقرر منحها جائزة البوكر الدولية. لكن لننتبه: الجائزة للترجمة الإنكليزية وليس للنص الأصلي.
ودخلت رواية “تفصيل صغير”، للفلسطينية عدنية شبلي، اللائحة الطويلة لجائزة “بوكر”، أيضاً، للعام 2021. الروائية التي تقيم في ألمانيا، تتكلم في سرد مدرسي ممل، وبشكل دعائي فج، عن إقدام مسؤول كتيبة عسكرية اسرائيلية في منطقة النقب على اغتصاب فتاة عربية وقتلها في آب 1949. كانت الرواية صدرت عن دار الآداب في بيروت العام 2017. لم تكن معروفة أبداً في الأوساط العربية، لدرجة أن الصحافيين العرب الذين نقلوا خبر ترشيح روايتها للجائزة كتبوا اسمها كما وردت في التقارير الأوروبية: آدانيا شبلي. لم ينبته أحد أنها عربية وأصدرت روايتها بالعربية في دار الآداب.
ونالت الكاتبة السورية، سمر يزبك، جائزة هارولد بيتر عن كتابها “في خط النار”، الذي ترجم إلى الإنكليزية والفرنسية ولغات أخرى. كتبت الغارديان: “إنها علوية ولكنها شاءت أن تدير ظهرها لطائفتها وتناهض النظام. هي روائية متحررة، خرجت من عباءة العائلة والطائفة والقبلية (لكن مَن مِن الروائيات السوريات، لندع الروائيين جانباً، لم تخرج من عباءة العائلة والطائفة والقبلية؟).
والشاعر الفلسطيني، يحيى حسن، الذي يعيش في الدنمارك، يكاد يتفوق في شعبيته على الملك الدنماركي. كتبت عنه الصحافة الدنماركية أنه “صنع التاريخ”. لماذا؟ لأنه أصدر ديوان شعر من جزئين هما “حسن يحيى1″ و”حسن يحيى2”. رشح الديوان لجائزة مجلس الشمال للأدب، لكن الشاعر مات منذ سنتين. يقال إنه قتل على أيدي عصابة مخدرات من الفلسطينيين واللبنانيين. عضوة مجلس جائزة الشمال قالت، بعد موته، إنه “ترك إرثاً للبشرية جمعاء وأنه وضع بصمة في الأدب الدنماركي وأن الأدب العالمي خسر بموته خسارة عظيمة”. نحن لا نتحدث عن رامبو أو شكسبير أو بودلير، بل عن شاعر فلسطيني كتب أشعاراً عادية عن المهاجرين العرب وصعوبة تأقلمهم في المجتمعات الغربية.
وأعمال السوري خالد خليفة، تبدو في المُراجعات التي تجريها الصفحات الثقافية في الصحف الأوروبية وكأنها معجزة ربانية من السماء، ويظهر الكاتب في هيئة مبدع لم تشهد الساحة الأدبية العربية مثيلاً له، وهو فوق ذلك مناضل ثوري لا يتزحزح عن قناعاته الثورية. في خريف العام الماضي، جاء السوري خالد خليفة إلى النروج للمشاركة في مهرجان أدبي أقامته بلدية مدينة برغن. في مقابلة مع صحيفة أفتنبوسن قال: “شيئان ممنوعان في سوريا هما الحشيش وكتبي”. أما القاص العراقي، حسن بلاسم، فيُرسَم في صورة نبي القصة العربية. وكتبت “الغارديان” أنه مزيج من كافكا وجيمس جويس وادغار آلن بو، وأكدت أن دور النشر العربية، رفضت نشر قصصه إلى أن جاء إلى فنلندا فاكتشفت موهبته ومنها بدأت عملية ترجمتها إلى لغات العالم (الحال أن المؤسسة العربية للدراسات والنشر كانت نشرت مجموعته القصصية “مجنون ساحة الحرية، العام 2012″، لكن يبدو أنها لم تلفت انتباه القراء.
الصومالية سمية جريدي علي، تقيم في أوسلو، أصدرت ديوانَي شعر وباتت نجمة في سماء الثقافة النروجية. تلاحقها الصحف النروجية وتقول عنها أنها طليعية في أفكارها وأشعارها، وتنقل عنها شتائمها للرجل النروجي الأبيض. العراقي عباس خضر، يحظى باهتمام الوسط الثقافي الألماني، هو الذي صار يكتب بالألمانية، بعدما ترك العراق منذ عشرين عاماً في سن الثالثة والعشرين. يكتب عن الهجرة واللاجئين أيضاً (في جدول الأعمال الأوروبية الآن ثيمات معينة تبدو بمثابة كاتالوغات يتم على أساسها الفرز الأدبي: الهجرة، اللاجئون، خطاب الكراهية، المثلية الجنسية، الحروب في سوريا والعراق وأفغانستان، العنصرية).
القراء بالكاد يعرفون هولاء في بلادهم، فكيف تسنى لهم أن نالوا هذا الاهتمام في الغرب؟
صحف أوروبية عملاقة مثل “غارديان” و”إندبندت” و”كوريري ديلا سيرا” و”لوموند” و”أفتنبوسن”، وسواها، تكتب عنهم بلا هوادة. نقرأ المراجعات في هذه الصحف ونكتشف أن هولاء عمالقة في الشعر والرواية من دون أن نعلم. لن تجد مراجعات على هذا النحو لكتاب مثل نجيب محفوظ أو الطيب الصالح أو يوسف إدريس. لا مراجعات لكتّاب من لبنان أو الأردن أو تونس أو المغرب أو ليبيا أو السودان. كيف فشلنا في التعرف إلى هذه المواهب الفذة؟
نعود إلى هذه النصوص. نقرأها. نعيد قراءتها. حسناً. إنها نصوص عادية، وربما أقل من عادية، مقارنة بنصوص كتّاب آخرين يكتبون بالعربية. فلماذا اختير هولاء بالذات كي يتم تحويلهم إلى علامات مضيئة للأدب العربي في سماء أوروبا؟ (شموس العرب تسطع على الغرب). ما المعايير الأدبية والنقدية التي استُند إليها كي يتقرر أن النصوص التي يكتبها هؤلاء هي تحف فريدة؟ الحقيقة أنه لا معايير. هناك، كما في حالة شربات وملالا وناديا، جملة من الحظوظ والعلاقات وشطارة الصحافيين و”كفاح المترجمين”، مقرونة بسيمفونيات عجيبة من المديح المجاني.
من الواضح أن ماكينات جبارة، على طرفي المتوسط، تلتقي وتعمل، بتخطيط أو من دون تخطيط، في شبكة معقدة من التفاهمات والاتفاقيات والصفقات، تشبه صفقات الجماعات السرية المغلقة. هي صناعة عملاقة تديرها أطراف كثيرة، تتبادل المنافع في ما بينها، في عملية أنيقة ومتقنة. وكما في أي صناعة، يجري ترتيب أسباب النجاح بدقة متناهية: دعاية وتسويق وتصريف وإعلانات وصور وحفلات استقبال، مثل صفقات نجوم الكرة أو حفلات عارضات الأزياء. الغريب أن هذه النصوص تنال جوائز عن الترجمة. هل هي جائزة للمؤلف؟ للنص؟ للمترجم؟ للمترجمة؟ إذا كان النص على ذلك القدر من الجودة، فلماذا لم يحظ بالقراءة في لغته الأصلية؟ هل هناك قول خفي في أن القراء العرب لا يملكون القدرة الفكرة والذهنية للتعرف إلى النصوص الجيدة وأن ذائقتهم معطوبة؟
مترجمون ومترجمات تخرجوا وتخرجن تواً من أقسام اللغات، ولديهم ولديهن شهوة عارمة لترجمة أي شيء في الطريق. يقفز الوسيط، البارع في نسج العلاقات، فيمد حبل الوصل، ثم يقوم الصحافي البارع في توزيع النعوت الطنانة، وعقد المقارنات الكسولة. فإن كتب أحدهم عن شاب يقتل أمرأة مسنة، قيل إنه ديستوفسكي. وإن جرى تشبيه إحدى الشخصيات في النص بصرصور، قالوا أنه كافكا. وإذا صارع البطل وحشاً، وُصف الكاتب على الفور بأنه همنغواي. وهكذا، نجد كتّاباً هم في آن واحد، تولستوي وفلوبير وجيمس جويس وجون شتاينبك، بناء على جملة أو فقرة أو مشهد في نص يكون، في مجمله، ركيكاً، هش البنيان، ضعيف اللغة، ممل السرد، باهت الحبكة.
لكن، هل الأمر على هذا النحو الأسطوري الذي تصوّره لنا الصحف الغربية بالفعل؟ هل يُقبل القراء في أوروبا على قراءة هذه النصوص؟ لو أننا أخذنا المدائح الباهرة بعين الاعتبار لاعتقد واحدنا أن الناس يقفون طوابير أمام المكتبات الأوروبية للحصول على نسخ من تلك النصوص فور صدورها.
الواقع شيء آخر تماماً. يقول المثل الكردي: داوت فركي، بربو هتكي. “انفض العرس وافتُضحَ المدعوون”. المهمة انتهت. حصل الباعة على أجورهم كاملة (المصورون والصحافيون والمترجمون ودور النشر، التي تستحصل على أرباح كبيرة من المؤسسات، غير الحكومية، والتي تمولها الحكومات الأوروبية، يا للمفارقة، وباتت تنتشر في طول العالم وعرضه وتستثمر في كل شيء تقريباً، من صنع القبعات إلى كتابة الروايات). مثل أي صفقة رابحة، تنتهي مهمة المقاولين بعد تسليم المنتج. أما أن تتكدس البضاعة في المخازن ويصيبها التلف فهذا ليس شأنهم. (أكثر من مرة رأيت كتباً مترجمة لمثل هذه النصوص وقد وضعتها المكتبات في صناديق على الرصيف للبيع بنصف دولار أو مجاناً).
وها هي النصوص التي لم نلتفت إليها، يا لتعاستنا، تأتي إلينا بأغلفة أوروبية الصنع، براقة. بضاعتنا تُردّ إلينا بعد عمليات تكرير وتجميل.
لا يهم أن ملايين الفتيات الأفغانيات ما زلن يعشن تحت رحمة “طالبان” في رعب أبدي، محرومات من أبسط حقوق العيش. وأن الباكستانيات ما زلن محرومات من حق التعلم والعيش بحرية. وآلاف الإيزيديات ما زلن مجهولات المصير في قبضة “داعش”، واللواتي تحررن ما زلن يعشن في مخيمات مزرية، فيما شرابات وملالا ونادية يعشن في روما ولندن وبرلين في شقق مفروشة وتسلط عليهن الأضواء. والكتّاب المحظوظون الذين اختارتهم ماكينة العلاقات العامة في أوروبا، كي يكونوا الوجه الساطع للأدب العربي، يصدقون أنفسهم ويتصرفون مثل أبطال. لا يبخلون في منح القارىء شذرات من سيرة حياتهم والتحديات التي واجهتهم فأشعلت عزيمتهم وقاوموا العسف والبؤس ومنحوا العالم قبسات من مواهبهم.
الكاتب الذي تُمنع كتبه مثل الحشيش، يعيش الآن في بلده سوريا، بأمان وطمأنينة، محاطاً بالأهل والأصدقاء، ويتلقى الدعوات للخارج لحضور المهرجانات وتنهال عليه العروض، فيخرج من سوريا ويعود إليها بهدوء وسلاسة. فيما يقبع مَن كَتَب مجرد جملة معارضة للحكومة في فايسبوك، في السجن وربما مات تحت التعذيب. وكاكا بغداد، أقصد كافكا بغداد، يتجول في عواصم الكرة الأرضية يستعرض مواهبه ويلتقط الصور مع كتاب ومترجمين وممثلين وممثلات، ويتم تعيينه في لجان تشرف على توزيع الجوائز والمنح في حلقة دائرية لا تنتهي (أعلن في فايسبوك أنهم عينوه، في البلد الأوروبي الذي يعيش فيه، في لجنة لاختيار مسرحيات أجنبية لترجمتها ونشرها في هذا البلد، فهب صديقه، صاحب الكتب التي تمنع كالحشيش، وقال له على الفور أنه سيرسل مسرحيات له ولأصدقائه. (ها هو، بالصدفة، مثال عملي عن آليات اشتغال العلاقات والحظوظ والصدف التي تحدثنا عنها للتو). شبكات وصفقات وعلاقات (علاقات صداقة أو غرام أو زواج: جاءت صحافية إلى دمشق وتزوجت من “مثقف” سوري مناضل. أخذته إلى ألمانيا وساعدت في تعيينه في هيئة تحرير مجلة “فكر وفن” الراقية، رغم أنه لا يعرف كلمة واحدة بالألمانية).
الصفحات الثقافية في الصحف الأوروبية، وغير الأوروبية، مثل مطاحن عملاقة تتلقف كل شيء. يختلط الحابل بالنابل. الجيد بالرديء. الباهر بالعادي. هناك حاجة دائمة إلى المواد الخام. وبلادنا مرتع لهذه المواد.
المصدر: المدن