جسر: ثقافة:
أهم ما في الكتاب عشرون سنة تشغل معظم صفحاته، وهي التي نعرضها هنا. إذ تضم أربعة عشر عاماً شغل فيها حمادة مواقع قضائية معتبرة في مدينة حلب، بدءاً من قاضي تحقيق ثم قاضي صلح مدني فرئيس نيابة عامة ثم مستشار في محكمة الجنايات وأخيراً رئيساً لاستئناف الجنح. وذلك بين أعوام 1986 و1999. ثم ست سنوات قضاها عضو قيادة فرع حزب البعث في المدينة منذ بداية 2000 حتى نهاية 2005.
من خلال عمله في القضاء يرى المؤلف أن أبرز مظاهر تلك المرحلة كانت:
* عدم كفاية الجهاز القضائي وفساده: فعندما عيّن كان عدد قضاة التحقيق في حلب خمسة، ريفاً ومدينة، وكانت حصة كل منهم في حدود ثلاثمائة ملف سنوياً. وعندما زاد العدد إلى 25 في 1996 كانت حصة القاضي أكثر من ألف ملف في العام. كما شاع بين القضاة الفساد المالي الذي لم يخفّ مع زيادة دخلهم من خلال «اللصاقة القضائية» التي فُرضت على كل معاملة في المحاكم، وكان ريعها يعود للقضاة بهدف كفايتهم الاقتصادية ورفع مستوى معيشتهم ومحاربة الرشوة. كما تم تعيين بعض القضاة كمحكّمين في المنازعات المالية التي تحصل بين تجار حلب، فتلقوا مبالغ مالية طائلة من هؤلاء الأثرياء وارتهنوا لهم. كما اعتاد بعضهم السهرات الماجنة التي ربما نظّمها محام أو غيره. وأخيراً تورط قضاة بجرائم «بشعة» يرفض الكاتب ذكرها تصريحاً أو تلميحاً.
* زيادة هجرة الريف إلى المدينة: ولذلك أسباب عديدة. وترافقت مع بقاء المخطط التنظيمي للمدينة على حاله عندما وُضع في عام 1933، حين كان عدد سكانها في حدود مائة ألف، ولم يجر توسيعه إلا في أحياء محددة (شارع النيل، الفرقان، المشارقة، الخالدية)، مما أدى إلى نشوء 32 حياً عشوائياً أقيمت بالتواطؤ بين المتعهدين أو السكان وبين موظفي قطاعات مجلس المدينة، دون مراعاة الشروط التنظيمية والصحية والبيئية، فارتفعت نسبة الجريمة وتنوعت في هذه الأحياء.
يصف حمادة قطاعات مجلس المدينة بأنها «مفرخة» للفساد والمفسدين. يُعيَّن معظم إدارييها وموظفيها بتوافقات بين كبار المسؤولين في المحافظة. والعاملون فيها «لصوص محترفون» يعرفون واجبهم بجباية الرشاوى وتحويلها لمعلميهم الذين يتركون لهم نسبة مقابل التحصيل. ونشأت عن ذلك علاقة مصالح بين موظفي البلدية وأجهزة الأمن من جهة وبين الذين يبنون المساكن المخالفة من جهة أخرى. فكانت قطاعات المجلس «من أكبر الكوارث التي أصابت مدينة حلب، بناء وسكاناً».
* ظهور جامعي الأموال: الذين كانوا يدفعون أرباحاً شهرية وهمية للمودعين أغرت الكثيرين على وضع مدخراتهم وثمن مصوغاتهم الذهبية لديهم، نتيجة عدم كفاية فرص العمل. وحتى بيع بعض وسائل الإنتاج وإيداع ثمنها لدى هؤلاء الذين ما لبثوا أن أعلنوا إفلاسهم مخلّفين كوارث اقتصادية واجتماعية، بعد أن عاش المودعون في بحبوحة لمدة قصيرة.
* زيادة نسبة المعلّمات الغائبات من خارج المحافظة، اللواتي كنّ يأتين وتسبقهن الواسطة التي ربما تصل إلى درجة ورود أسمائهن في قائمتين مخصصتين لكل من باسل وبشار الأسد. والكثير منهن كنّ لا يداومن على الإطلاق، وتغضّ مديرية التربية الطرف عنهن، ولاسيما أن تعيين أغلبهن يكون في الأرياف البعيدة المهمَلة، مما زاد نسبة الجهل وما يتبعه من جرائم.
* ظاهرة إلقاء القبض على صغار المهربين أو الناس العاديين القادمين من دول الجوار ومعهم علبة سمنة أو محارم أو موزٌ أو جهازٌ كهربائي. وتقوم بذلك أجهزة يَنخرها الفساد كالجمارك والشرطة.
* كثرة الجرائم بين الصائمين، ولا سيما قبيل الإفطار بنحو ساعة.
أما السنوات التي قضاها حمادة في عضوية قيادة فرع الحزب فتحمل مشاهدات ثمينة للغاية توضح آلية عمل النظام من الداخل، ولا سيما في المحافظات، مما يشكك في صحة وصفه بأنه «نظام».
من الناحية الشكلية يعدّ أمين فرع الحزب في أي محافظة أعلى سلطة فيها، بالاستناد إلى قيادة البعث السياسية للدولة بموجب المادة الثامنة من الدستور. فهو يرأس المحافظ الذي يعيّن كعضو قيادة فرع بحكم منصبه، كما يترأس اللجنة الأمنية المحلية التي تضم المحافظ ورؤساء فروع الأجهزة الأمنية الأربعة (المخابرات العامة، المخابرات العسكرية، الأمن السياسي، المخابرات الجوية) وقائد الشرطة، وآخرين.
أما عملياً فيشكّل كل هؤلاء نادياً يحكم المحافظة دون تراتبية نهائية، إلا ما يعود إلى درجة دعم كل منهم و«قوة شخصيته» التي تعني هنا اعتداده بنفسه وإهمال المذكرات التي لا تروقه والمرسلة من باقي أفراد النادي، وقدرته على خوض المشاحنات الكلامية التي قد تتطور إلى عراك بالأيدي معهم، والاتصال بالعاصمة لكسر رأس خصمه عند اللزوم، مما يدفع زملاءه إلى تحاشي الصدام معه منتظرين انقلاباً في لعبة الكراسي قد يودي به أو بظهره الحامي في دمشق.
وتكون هذا النادي الحاكم في حلب من المحافظ وأمين الفرع ورؤساء الفروع الأمنية الأربعة وقائد الشرطة ورئيس فرع الأمن الجنائي والمحامي العام الأول ورئيس مجلس المدينة ورئيس الجامعة وأمين فرع الحزب في الجامعة ومدير الأوقاف. وربما انضم إليه عضو قيادة الفرع أو عضو مجلس الشعب أو مديرٌ محليٌّ لإحدى المديريات المهمة كالمالية والتموين، أو رئيس فرع نقابة أو سواها إذا كان «قوياً».
وبين هؤلاء خطوط معقدة متشابكة من تبادل المصالح وبناء التحالفات وتداخل الصلاحيات والشراكات الموقتة والتنافس القاسي والصداقات الحذرة والضغائن المبيتة والحروب الباردة والحارة والفاترة، التي تتقاطع مع خلافات وأحلاف نظيرة في المركز بين الرعاة في القيادة القطرية والأجهزة الأمنية والوزارات… وطبعاً في القصر الجمهوري.
يقول المؤلف إنه التقى بشار الأسد أكثر من مرة. وكان في الأولى «مبهراً بحديثه المتماسك الشامل»، وفي الثانية أعاد الحديث نفسه بحروفه وفواصله ونقاطه. ولقطع الشك باليقين سأله محاوره عن موضوع من خارج السياق فأجاب بشيء لا علاقة له بالسؤال، وصار يؤشر بيديه ويحرك فمه مصدراً أصواتاً غريبة دفعت المؤلف إلى اليقين بأنه مجنون.
وفي حادثة يكتفي حمادة في تفسيرها بالتلميح دون التصريح، يشير إلى استهانة إياد غزال، مدير قصر الضيافة بحلب وقتها، ببشار الأسد، ورفع الكلفة معه لأسباب ربما ارتبطت بقضايا «سبق أن مرّت عليّ وأنا قاضي تحقيق». وهنا تغيّر لون غزال وأنهى الحديث بالقول: «مثل هذه الأمور لا يجري المزاح فيها!».
غير أن أقذع ما يرويه عن بشار هو أنه عندما أراد الاستقالة من عضوية قيادة الفرع ورفع طلبه إلى القيادة القطرية؛ جاءه الجواب بأن الأمين القطري المساعد، سليمان قداح، يطلب حضوره إلى مكتبه في العاصمة في وقت محدد من اليوم التالي. يقول حمادة إنه لما دخل المكتب فوجئ ببشار يجلس مكان قداح، وقال لي فوراً: «هل تريد أن تكون محافظ درعا أو دير الزور؟»، فأجبته «أريد أن أعود إلى القضاء»، فقال: «هل تريد أن تكون نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الخدمات؟» فقلت: «أريد أن أعود إلى القضاء»، فرد: «تلحس ط…!». وهنا، يقول حمادة، لم أجرؤ على الرد فسكتت وتذكرت ما قاله أبوه حافظ لرئيس المحكمة الدستورية العلّامة نصرت منلا حيدر، عندما سأله عن المؤيد الجزائي لمخالفة رئيس الجمهورية للدستور، فأجاب نصرت: «سيدي إن رئيس الجمهورية هو الذي يسهر على سلامة الدستور ويضمن عدم المساس به، ولا يتصور عقلٌ أن يقوم رئيس الجمهورية بالاعتداء على الدستور»، فقال له حافظ الأسد: «تلحس ط…» وأغلق الهاتف في وجهه..
موقع تلقزيون سوريا ١٧ آب ٢٠٢٠