نعومة مخلوف وبسطار اﻷسد

نعومة مخلوف وبسطار اﻷسد

نعومة مخلوف وبسطار اﻷسد

نعومة مخلوف وبسطار اﻷسد

نعومة مخلوف وبسطار اﻷسد

نعومة مخلوف وبسطار اﻷسد

نعومة مخلوف وبسطار اﻷسد

شارك

نعومة مخلوف وبسطار اﻷسد

نعومة مخلوف وبسطار اﻷسد

جسر: رأي:

مخلوف واﻷسد

عرض النظام السوري منذ مارس/ آذار 2011 قدرة لافتة على التماسك. ومعروف أن التدخل العسكري الروسي المباشر الذي بدأ في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، جاء في لحظة وصلت معها وسائل دفاع النظام، بما في ذلك الاستعانة بإيران وأتباعها، إلى حدود قصوى، وبدأ معها النظام بتراجع عسكري متسارع. وقد عبّر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن تلك اللحظة بالقول إن النظام السوري كان على وشك السقوط قبيل هذا التدخل. مع ذلك، حافظ النظام على آليات عمله ولم يتفكّك. أي إن الضعف والتراجع العسكري للنظام لم يفعّلا آليات الصراع الداخلي فيه، إلى حد تخرج فيه عن السيطرة وتهدّد بتفكك النظام. ظل الأخير قادراً على استيعاب الخسائر، والحفاظ، وهذا هو الأهم، على الهرمية السلطوية فيه، ولا سيما في الجانب العسكري الذي ظل خاضعاً للسلطة السياسية، الشيء الذي افتقدته المعارضة العسكرية على نحو دائم، في لحظات ضعفها، كما في لحظات قوتها.

كان هناك في نظام الأسد، على طول الخط، آليات حسم داخل المركز الحاكم، تمنع تفجر المركز. مبدأ هذه الآليات هو ضبط مراكز القوى تحت سيطرة مركز واحد أعلى لا يُنازع ويمتلك الذراع العسكرية والأمنية التي تمكّنه من الحسم إذا تطلب الأمر، غير أن الأمر لم يتطلب ذلك إلا مرة واحدة وبحدود ضيقة في عام 1984 لمعالجة تمرّد رفعت الأسد وجماعته. وقد سمحت هذه الآلية للنظام بتجاوز مراحل شديدة الصعوبة، اعتقد كثيرون أنه يصعب تجاوزها، أهمها تداعيات سقوط شقيقه البعثي بالتدخل الأميركي المباشر في العراق في 2003، ثم تداعيات اغتيال رفيق الحريري في لبنان في 2005، ووصول التحقيق الدولي في الجريمة إلى البيت الداخلي للنظام. حافظ النظام دائماً على نسقه موحداً، وبدت الانزياحات “غير المتسقة” مجرّد حالات فردية تنتهي بمقتل صاحبها بتدبيرٍ ما، أو بخروجه من المشهد أو من البلد وشلل فاعليته، وذلك كله من دون أن تهتز جدّياً ماكينة النظام.

المرّة الوحيدة التي بدا فيها أن المركز الحاكم موشك على التفجر كانت في 1984، حين أبعد المرض المايسترو عن الجوقة، ما جعل الحلم الأكبر يستيقظ في دخيلة الشقيق رفعت الذي كان يمتلك في الواقع ما يمكّنه من تحويل حلمه إلى حقيقة، لامتلاكه أهم عنصرين يخشاهما “المركز الحاكم”: القدرة العسكرية، والامتداد المجتمعي، سواء داخل الطائفة العلوية، أو في أوساط سنّية بفعل الاستفادة المباشرة أو بفعل دغدغة المصالح الطبقية للتجار عبر سياسة الانفتاح. تجاوز النظام تلك الحلقة بشقّ النفس، وتخلى عن أحد أهم أركانه، واستطاع أن يعيد ترتيب علاقاته الداخلية بغياب قائد سرايا الدفاع الذي كان قبل سنتين فقط العصا الغليظة للنظام في وجه خصومه الإسلاميين. قبل ذلك، لم يكن أحد يتصوّر وجود نظام حافظ الأسد من دون الركيزة “العضوية” التي يوفرها وجود “القائد” وسراياه. واليوم يعرض الواقع على السوريين احتمالاً راجحاً لم يكن ليذهب إليه التصور من قبل، نظام الوريث من دون رامي مخلوف.

تتفوق آليات الحسم التي يجيدها نظام الأسد، ليس فقط على مبدأ الطائفة، بل على مبدأ العائلة أيضاً. لا يتعلق الموضوع بالولاء، فهو عملة فائضة لا يركن إليها، وهو إلى هذا قد يسبب غرق المركب، ما لم يمرّر عبر قنوات مضبوطة ومسيطر عليها. الولاء والتبجيل اللذان أظهرهما رامي لبشار في تسجيلاته، لا قيمة لهما من منظور النظام، المهم ألّا تتشكل لدى “الموالي” القدرة على تهديد مصالح النظام. الولاء موقفٌ لا يُركن إليه، فهو قابل للتبدّل، وقد خبر النظام انشقاقات موالين كثر كانوا شديدي الولاء، ولكن لم يكن لأحد منهم القدرة على تحدّي النظام وتهديد استمراره. لم تصل الانشقاقات إلى الكتلة الصلبة للنظام، ما خلا حالة وزير الدفاع الأسبق علي حبيب الذي اكتفى بالخروج الصامت من المشهد. 

الثروة الهائلة التي راكمها رامي مخلوف، بوصفه الامتداد الاقتصادي للنظام في السوق، أعطته القدرة على تهديد تماسك النظام، غير أن الرجل حتى الأمس القريب كان جزءاً عضوياً من النظام بلا أي خطوط تمييز. ما الذي تغير؟ وهل لرامي مخلوف اليوم مصلحة تتعارض مع مصلحة النظام الذي أمّن له كل سبل النهب الممكنة؟ وهل من انعكاسات ممكنة لهذا الصراع المستجد؟

سنوات الصراع الطويلة استهلكت كثيراً من قدرات النظام الاقتصادية التي أنهكتها العقوبات، وزادت في تفاقهما أزمة النظام اللبناني. حرامي سورية الذي كان وفياً للنظام في سنوات الصراع الأولى، بدأ اليوم يشعر بأن النظام بات عبئاً عليه، هو الذي كان يشعر، مع بدايات الثورة السورية، بأنه عبء على النظام، بوصفه التجسيد الأبرز للفساد. وقاد استمرار الصراع إلى اهتراء نسيج العلاقة بين عائلتي القصر، وأدّى أيضاً إلى اهتراء العلاقة التي كانت راسخة دائماً بين عائلتي طلاس والأسد. بدأ “خازن القصر” يتذمّر جرّاء طلبات الدفع العالية والمتواصلة، وراح يتضح أكثر فأكثر تعارض مصلحته مع متطلبات النظام، ولذلك بدأ يخرج عن النسق. وما أظهره الملياردير المدلل من “أنانية” في خريف 2019، بامتناعه عن تسديد فاتورة الحرب الروسية التي بلغت ملياري دولار، واضطرار النظام إلى استخدام العنف مع مؤسساته، كان بداية طريق الشقاق الذي يبدو أن صاحب شركة سيرياتل “الورع” اختاره وتحمّل أول آثاره الداخلية، حين قامت وزارة المالية بالحجز الاحتياطي على أرصدته في ديسمبر/ كانون الأول 2019.

هل يمكن أن ينعكس الصراع المستجد بين الأسد ومخلوف انقساماً في الوسط العلوي؟ الراجح أن شيئاً من هذا لن يحدث، على الأقل لن يحدث بصورةٍ تهدّد جدّياً تماسك الأرضية المؤيدة للنظام. أولاً لأن رامي مخلوف لا يمتلك قوة عسكرية يمكنها تحدّي النظام، ثانياً لأن العصبية العلوية للنظام، التي هي على المستوى الشعبي الواسع، عصبية خوفٍ أكثر مما هي عصبية امتيازات، ستنحاز بصورة ساحقة إلى الأسد بوصفه الطرف الأقوى. أما البسطار الأسدي، فسينحاز إلى الجنس الناعم الذي يسكن القصر، على حساب “النعومة” المخلوفية التي لم تعد مضمونة الولاء، وسيشهد النظام لذلك إعادة اصطفاف وترتيب مواقع شبيهة بتلك التي أقدم عليها النظام عقب ضرب مواقع رفعت الأسد في 1984.

 

*نشر في العربي الجديد 10 أيار/مايو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا

شارك