عبد الناصر العايد
أطلق سياسي مقرب من حزب الله، مؤخراً، تحذيراً يبدو غريباً نوعاً ما، طلب فيه من اللبنانيين الاستعداد لموجة نزوح سوري سببه معركة دير الزور “الكبرى” التي باتت قريبة جداً، ويأتي ذلك بالتزامن مع صدور تصريحات ودراسات وتقييمات متعددة، تدور حول هذه المعركة التي تحدثنا عنها في باكراً في مقال سابق، وقلنا حينها أن المعركة قريبة ومؤكدة. لكن يبدو معطيات ميدانية غيّرت بعض القرارات أو دفعت إلى تأجيلها، على الرغم من استمرار وتصاعد الزخم الإعلامي حول المعركة، وهنا سنحاول إعادة بناء المشهد لفهمه أكثر باعتباره ما زال مرشحاً لأحداث مهمة.
بدأ الحديث اعلامياً عن المعركة مع إطلاق وسائل اعلام مقربة من إيران، شائعة تقول بأن الولايات المتحدة تستعد لمهاجمة البوكمال وقطع طريق التواصل بين سوريا والعراق. وقد تلقى اعلام المعارضة السورية، الشائعة، وردد الصدى وضخّمه، مع تأكيدات غير رسمية له، ليعود الإيرانيون ويتلقفونه ويقدمونه كحقيقة. وبناء عليه، تحركت أذرعها المحلية لإقامة الاستعراضات العسكرية والمهرجانات الخطابية التي تندد وتتحدى المشروع الأميركي المفترض، والذي نعتقد أنه لم يكن موجوداَ ولا وقائع تؤكده. وبدأ الحشد الإيراني عبر تشكيل قوة عسكرية من أبناء عشائر المنطقة الواقعة تحت سيطرتها، ودعم مليشيا الدفاع الوطني التابعة للنظام، وتحشيد المليشيات الإيرانية وتعزيزها بالأسلحة على امتداد نهر الفرات.
وعندما تنبهت القوات الأميركية لما يحدث وتفحصت جوارها، فوجئت بأن الحرس الثوري ونظام الأسد قد فخخ الأرض حول قواعدها بالخلايا النائمة، خصوصاً في صفوف قوات “قسد” الحليفة لها، الأمر الذي دفعها إلى تغيير تلك القوات بشكل عاجل بأخرى لا يعتقد أنه تم العمل في صفوفها. وأثار ذلك استياء ما يدعى بمجلس دير الزور العسكري الذي كان يسيطر على المنطقة، ورفض القرارات التي تتضمن ما يشبه كفّ اليد، ونشب صراع عسكري بينه وبين القيادة الكردية، وعملت المليشيات والنظام على تأجيجه بقوة. لكن القوات الأميركية احتوته بسرعة ومنعته من التطور، وفي هذه الأثناء تم جلب أعداد كبيرة من القوات والأسلحة، تحسباً لهجوم إيراني واسع ومتعدد المستويات، وجرى اظهار ذلك للعيان في محاولة لردع طهران ومنعها من الإقدام على هذه الخطوة.
لكن الإيرانيين لجأوا إلى رفع الرهان، على ما يبدو، وهددوا بتوسيع دائرة المواجهة لتصبح في عموم المنطقة. كما بدا واضحاً أن الخطط التي تُحاك، تدعمها روسيا بقوة عبر سلاحها الجوي المتمركز في سوريا، كما أوضح معهد دراسات الحرب الأميركي، وهو ما استدعى مسارعة واشنطن لتعزيز قواتها في كامل المنطقة، لا سيما في الخليج العربي والعراق، وإرسال أحدث الطائرات الأميركية، لتحلق طرازات منها للمرة الأولى في سماء المنطقة، وأبلغت القوات الروسية عن رصدها لطائرات إف-35 الشبحية للمرة الأولى في الأجواء السورية.
وفي وقت لاحق، وخلال زيارته طهران، أعلن وزير خارجية النظام السوري، إن على القوات الأميركية أن تنسحب من سوريا قبل أن تُجبر على ذلك، ثم بُثت مقابلة تلفزيونية مع رأس النظام بشار الأسد، شدد خلالها على عمق وأولوية التحالف حتى النهاية مع طهران. وبُعيد ذلك، بدأت تظهر إعلانات ما يسمى بالمقاومة السورية، للإبلاغ عن هجمات بالصواريخ والمسيرات على مواقع أميركية. ومع أن واشنطن لم تُبلغ عن وقوع هذه الهجمات ولم تنفِ حدوثها، إلا أننا نميل للاعتقاد بأن الهجمات حدثت بالفعل، لكن الصواريخ والمسيرات مُنعت من الوصول إلى أهدافها من خلال التقنيات المتقدمة التي جُلبت مؤخرا إلى القواعد الأميركية للتعامل مع هذا النوع التهديدات، وترافق ذلك مع ضربات غير عادية للمليشيات الإيرانية في دير الزور ودمشق، يبدو انها حصدت خسائر جسيمة.
عند هذا الحد، دخل الصراع الذي نتحدث عنه في العتمة الاستخباراتية، ولم يعد الرصد الخارجي ممكناً. لكن خبراً أوردته وسائل اعلام محلية، عن تغيير الحرس الثوري لقائد قواتها في دير الزور لسنوات، وهو الحاج كميل، بقيادي يُعد أحد تلامذة قاسم سليماني هو موسوي الموسوي، يقول بأن طهران تعيد النظر في خططها، لكنها لا تتراجع عنها. فتبديل الأحصنة هذا، ينطوي على دلالة تفيد بأنها أجّلت عملها في دير الزور، لكنها من ناحية أخرى ستربطه أكثر بمواجهة إقليمية مع أذرع الحرس الثوري في الإقليم الذي يبدو أن موسوي يتقنه أكثر بحكم مرافقته لسليماني. وهو تطور خطير، يدفع شركاء واشنطن وحلفائها للاستنفار. وعلى خلفية ذلك، وصلت تعزيزات بريطانية وأخرى فرنسية إلى المنطقة، وتهيأت إسرائيل أكثر، أما الدول العربية فأوقفت على الفور مسار التطبيع مع النظام، بل وانقلبت عليه في أكثر من مناسبة.
كخلاصة، نرجّح أن معركة دير الزور “الكبرى” أصبحت مكشوفة، وتتوافر للجانب الأميركي وسائل التعامل معها، وأن قواتها لن تخضع للتهديد في شرق سوريا وتنسحب كما كان يأمل الإيرانيون الحالمون بتوسيع معبر شرق سوريا إلى المتوسط. كما أن التلويح بمعركة الساحات المتعددة، استنفد إمكاناته مع تحشيد القوات الأميركية في المنطقة. وما وُصف بأنه “وابل” من الصواريخ ينهمر على القواعد الأميركية في شرق الفرات، ربما يصبح حديثاً اعلامياً لن يتوقف في المرحلة المقبلة. فاستراتيجية الحرس الثوري تقوم أساساً على الحرب النفسية والاستنزاف، وهو ما يمكن أن يحصل بطبيعة الحال، لكنه لن يحصد التأثير الاستراتيجي الذي كان يمكن لطهران أن تجنيه فيما لو استمرت بخطة المواجهة الإقليمية، التي لا نستطيع على كل حال أن ننفي وقوعها بشكل قطعي في الأسابيع المقبلة.
المصدر: المدن