تنتشر جماعة الإخوان المسلمين في عشرات الدول، وتحتفظ بمئات، إن لم نقل ألوف المؤسسات الدعوية والتربوية والاجتماعية، وتتوفر على مئات المؤسسات الاقتصادية والمالية والتجارية، وهي تلعب أدورا متفاوتة في حجمها بين هذه الدولة وتلك، وتتخذ مواقف وتحتل مواقع وتنشئ تحالفات، شديدة التباين.
أي قرار أميركي بشأن إدراجها في القائمة السوداء للمنظمات الإرهابية، يتعين أن يأخذ جميع هذه التعقيدات بنظر الاعتبار، وأن يتحسب لشتى أشكال التداعيات والتفاعلات التي ستترتب عليه… ولا يجوز بحال من الأحوال، أن يُبنى القرار على قاعدة “استرضاء” بعض الحلفاء الإقليميين (مصر والإمارات والسعودية)، أو أن يأتي نظير صفقات سياسية أو مالية مع هذه الأطراف.
القرار الأميركي حال صدوره، سيضع جملة من القيود والعوائق على طريق الدبلوماسية الأميركية
مواقف الجماعة، ومواقعها، إشكالية في الغالب الأعم، واللون الرمادي يغطي مساحات واسعة من خطابها السياسي والفكري، ما يزيد الالتباس ويعمق الغموض.. علاقاتها بالغرب “ملتبسة”، فهي راوحت ما بين التحالف زمن الحرب الباردة، إلى التوتر في مراحل لاحقة.. وللغرب مواقف ملتبسة كذلك في علاقته مع الجماعة، فهي نشأت تاريخيا في أحضانه (بريطانيا)، وهي أجرت حوارات وتفاهمات مع واشنطن عشية انطلاق ثورات الربيع العربي وفي بداياته، وهي نشأت تحت جلد الاحتلال الإسرائيلي، وبـ “غض طرف” من قبله في البدايات الأولى لتشكيل “حماس” في قطاع غزة في ثمانينيات القرن الفائت.
يُنظر للجماعة بوصفها “الرحم الكبيرة” الذي ولِدت منه أولى حركات التطرف الإسلامي العنيف، وهذا صحيح، فنظرية التكفير المتأسسة على “جاهلية” الدولة والمجتمع، واستتباعا “الهجرة إلى الفرقة الناجية” تجد جذورها في كتابات سيّد قطب، قبل أن تتلاقح مع نظريات السلفية الجهادية، في طبعتيها الوهابيّة و”المودودية”.
لكن في المقابل، قلما يُنظر إلى نشؤ حركات “الإسلام المعتدل” من الرحم ذاته، كما في تجربة النهضة في تونس، والعدالة والتنمية في كل من تركيا والمغرب، وكثير من الأحزاب المدنية المحافظة التي تكاثرت في عدد من الدول العربية والإسلامية بوصفها تطويرا لخطاب الجماعة وتجاوزا له.
للجماعة مواقف “رمادية” من قضايا الإرهاب وحقوق النساء وغير المسلمين والتداول السلمي للسلطة والحريات العامة بخاصة حرية الاعتقاد والضمير، والقبول بالتعددية الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية واحترام الاختلاف. لكن من الصعب الحكم على جميع فروعها باستخدام المسطرة ذاتها، ففي الدول التي حكمت بأنظمة “غير دموية” طوّرت الجماعة خطابا سلميا أكثر تطورا (تجربة الأردن)، وفي الدول التي حكمت بأنظمة دموية وإقصائية، لجأت الجماعة أو بعض أجنحتها للعنف والتشدد. ليكون الدرس المستفاد من تجارب مختلفة، أن الأنظمة الحاكمة تنتج معارضات على صورتها وشاكلتها.
لماذا الآن، وما هي أسباب “الاستدارة”؟
لا أحد يمتلك تفسيرا صافيا للتطور الذي طرأ على نظرة واشنطن للجماعة الإسلامية الأكبر والأعرض والأوسع انتشارا من بين جميع مدارس الإسلام السياسي.. لكن التكهنات الذائعة، تربط ما بين توجه إدارة ترامب الجديد من جهة، وضغوط كل من مصر والإمارات والسعودية لإدراج الجماعة على قوائم الإرهاب من جهة ثانية.
حاولت هذه الأطراف أن تفعل شيئا مماثلا مع بريطانيا، بيد أنها أخفقت، واستغرقت التحقيقات البريطانية سنوات طوال قبل أن يصدر الموقف بصيغته النهائية، التي تدفع بالجماعة إلى حافة “التوصيف بالإرهاب” دون أن تسمها بهذه السمة. مرة أخرى يظهر البريطانيون، أنهم أكثر معرفة ودراية بتفاصيل المنطقة وخصائصها أكثر من زملائهم الأميركيين، بالرغم من مئات الجامعات ومراكز الأبحاث والأذرع الطويلة للمجمع الأمني الأميركي.
للجماعة مواقف “رمادية” من قضايا الإرهاب وحقوق النساء وغير المسلمين والتداول السلمي للسلطة والحريات العامة
ما الذي ستحصل عليه واشنطن في المقابل من الأطراف العربية الثلاثة المتحمسة لهذا القرار والدافعة باتجاه استصداره؟ هل ثمة ما أكثر من الرضى الاسترضاء؟ هل ثمة صفقات مالية في الأفق، وتحديدا من الإمارات والسعودية، جريا على دأب هذه الإدارة في تحويل الدبلوماسية إلى ضرب من الصفقات التجارية؟ هل للأمر صلة بتعهدات تلقتها واشنطن من هذه الأطراف بتيسير مهمة جارد كوشنير، وتسليك الطرق أمام ما بات يعرف بـ”صفقة القرن”، عشية الكشف عن تفاصيلها في غضون أسابيع قليلة قادمة؟ أسئلة تشغل بال المنطقة، بمحلليها ومراقبيها وفاعليها، من دون أن تكون هناك إجابات على أي منها… ومن دون أن يكون هناك ما يكفي من معطيات تفسر وتبرر، الاستدارة الأميركية الكاملة، من النظر للإخوان بوصفهم “مشروع بديل محتمل” لأنظمة الفساد والاستبداد التي أطاحت بها ثورات الربيع العربي، إلى جماعة إرهابية تستحق الملاحقة والاستئصال، ويُحظَر التعامل معها تحت طائلة العقوبات.
القرار الأميركي حال صدوره، سيضع جملة من القيود والعوائق على طريق الدبلوماسية الأميركية، وسيسهم في خلق أوضاع حرجة وغير مريحة للعديد من حلفائها في المنطقة والعالم الإسلامي. فالإخوان المسلمون، بطبعاتهم المختلفة، يتولون زمام السلطة والحكم في كل من تركيا والمغرب وتونس (وقطاع غزة)، فكيف سيجري التعامل مع حكومات هذه البلدان الصديقة والحليفة للغرب والناتو وواشنطن؟
و’الإخوان’ يتواجدون في برلمانات الأردن والبحرين، الدولتان الحليفتان للولايات المتحدة، في الحرب على الإرهاب وفي احتضان الأسطول الخامس الأميركي، فكيف ستتصرف واشنطن مع عمان والمنامة بعد صدور القرار وفي حال صدوره؟ الإخوان يقاتلون تحت راية التحالف في أكثر من ساحة: في اليمن، هم جزء من التحالف السعودي ـ الإماراتي، وفي سوريا هم ركن ركين في المعارضة المدعومة من واشنطن وحلفائها، وفي ليبيا هم العمود الفقري لحكومة طرابلس المعترف بها دوليا، وفي قطر يتواجد العشرات من قادتهم وعقولهم المفكرة، على مبعدة أمتار من قاعدة العديد، أكبر قواعد البنتاغون في المنطقة، وفي العراق هم جزء ثابت من ترتيبات الحكم في مرحلة ما بعد صدام حسين، وبـ “هندسة” أميركية بدأت مع بول بريمر.
في باكستان وإندونيسيا وماليزيا وأفغانستان وبنغلاديش وآسيا الوسطى، وغيرها تحتفظ الجماعة بنفوذ على مستوى القاعدة الاجتماعية وفي بنيات الحكم كذلك، فما الذي سيطلب من حكومات هذه الدول جميعها؟ وهل المطلوب منها أن تشرع في إنفاذ قرارات الحظر والملاحقة والإقصاء ما أن يتصاعد الدخان الأبيض من مدخنة البيت الأبيض؟ وأية تداعيات ستترتب على أمن هذه الدول واستقرارها وسلمها الاجتماعي؟
وفي الحديث عن تداعيات القرار على خصوم واشنطن وأعدائها في المنطقة والعالم، تقفز المفارقة الغريبة العجيبة إلى السطح: فالقرار أدخل البهجة إلى قلوب القادة الروس والسوريين، الذين سبقوا واشنطن بسنوات (وعقود في الحالة السورية) بإعلان الجماعة منظمة إرهابية. أما إيران، وإن كانت نددت بالقرار الأميركي، إلا أن علاقاتها مع الإخوان ليست دائما على ما يرام، وقد اتسع الشرخ بين مدرستي “ولاية الفقيه” و”الحاكمية لله” في سياقات الربيع العربي، لا سيما بعد أن توقف قطاره في محطته الدمشقية، ولا أحسب أن قادة طهران سينظرون ليوم صدور القرار الأميركي بوصفه يوما أسودا في حياتهم.
‘الإخوان’ يتواجدون في برلمانات الأردن والبحرين، الدولتان الحليفتان للولايات المتحدة
ستفقد واشنطن بقرارها حال صدوره، الكثير من الفرص والبدائل المتاحة أمام دبلوماسيتها، وهي تتعامل مع أزمات المنطقة وتحولاتها المتسارعة، وستضيف تعقيدات جديدة أمام منظماتها العاملة في الإقليم، وستخسر نوافذ للتنسيق الأمني مع فروع الجماعة في الولايات المتحدة والغرب، حيث تؤكد مصادر متعددة وموثوقة، أن الجماعة تتعاون مع أجهزة استخبارية غربية للكشف عن خلايا وشبكات و”ذئاب متفردة” تعمل لصالح القاعدة أو “داعش”، أو غيرهما من منظمات إرهابية. وسيقطع القرار الطريق أمام “المراجعات” التي تجري في أوساط الجماعة، وبدفع من تياراتها الأكثر مدنية واعتدالا، مستفيدة من دروس ثورات الربيع العربي، وسيمنح القرار التيارات “الصقرية” الأكثر تشددا، اليد العليا في أوساط الجماعة.
والخلاصة: ثمة “نزعات إرهابية” عند بعض فروع الجماعة في بعض المراحل الزمنية، وهي غالبا ردود أفعال على الاستبداد المتمادي والقمع المنفلت من كل عقال، ولقد سُجّل على بعضه فروعها في بعض المراحل احتفاظها بـ”تنظيم خاص/سري” لتنفيذ اغتيالات أو لإرهاب الخصوم، ويتعين على القرار الأميركي إن كان لا بد منه، أن يقتصر على إعلان “الأذرع العسكرية” و”التنظيمات السرية” التابعة للجماعة في عدد قليل من الدول، لا أن يشملها بكليتها، وحيثما تواجدت، ومعاقبتها بتهمة الإرهاب، والأهم معاقبة كل من يتعامل معها على هذا الأساس.
عريب الرنتاوي-الحرة