جسر: رأي:
العملية التركية المرتقبة شرقي الفرات ليست بالخطورة التي بدت عليها للوهلة الأولى، والضوء الأخضر الأميركي لأنقرة لن يخلط الأوراق على نحو استثنائي، بل أن الأمر برمته قد يتحول إلى زوبعة ترامبية أخرى في فنجان “تويتر” لا أكثر. أما بالنسبة لانقرة، فقد يصبح الموضوع خطأً استراتيجياً قد تصعب العودة عنه.
فعلياً، لم تتحرك القوات التركية الموكلة بالعملية حتى اللحظة، ويبدو أن اردوغان يعيد حساباته، ويتخوف من الاندفاع في مغامرة غير محسوبة على الرمال السورية المتحركة، وقد يحجم عن العملية، أو يحاول تحاشي ارتداداتها الأخطر بتحويلها إلى عملية سياسية أكثر عقلانية.
وما هو مخطط له هو دخول فصائل سورية معارضة محسوبة على تركيا، إلى كل من تل ابيض ورأس العين، بعدما انسحبت منهما القوات الاميركية. وستتوغل تلك الفصائل حتى الطريق الدولي أربيل/ حلب، بغطاء جوي تركي. لكن ذلك الغطاء، لن يكون كافياً بعد القرار العسكري الأميركي بتقييد تحليق الطيران التركي في سوريا، ما يعني أن المساندة الجوية ستكون من داخل الأراضي التركية حصراً، وهو ما سيُعقّد مهمة القوات البرية، ويكبدها خسائر إضافية. وسيتيح ذلك بالتالي زمناً أطول لصمود القوات الكردية، التي اتخذت قرار الدفاع عن مناطق سيطرتها حتى آخر رمق.
بيان البيت الأبيض الذي منح أنقرة ضوءًا أخضر، لم يكن جدياً بشكل كاف، فبعد ساعات عاد ترامب إلى تقليص التفويض الممنوح لأردغان، ولاحقاً عاد للحديث العمومي عن الانسحاب محملاً حلفاءه الأوربيين، وخصومه الأميركيين عقابيل العملية العسكرية في سوريا، ومنتقداً طريقة التعامل مع واشنطن على أساس انها شرطي العالم، لكنه لم يحسم ولم يجزم، وترك هامشاً كبيراً للتراجع عن المواقف فيما لو تغيرت المعطيات.
ويبدو أن خلاصة ما يُحتملُ أن يحدث على الحدود السورية الشمالية، هو جائزة صغيرة يمنحها ترامب على مضض لأنقرة، للمحافظة على العلاقة الاستراتيجية معها، والضغط على حلفائه لتقديم المزيد من المساهمة المالية في العمليات الجارية، وربما دفع تكاليفها بالكامل، وفي الوقت ذاته، إثارة عاصفة في واشنطن للتغطية على ملفات ساخنة أخرى مثل ملف عزله.
ويواجه اندفاعة ترامب هذه، كما حين أعلن الانسحاب من سوريا مطلع العام 2019، جنرالات في وزارة الدفاع الأميركية بالدرجة الأولى. وهؤلاء لديهم حساباتهم الخاصة التي سيدافعون عنها بشراسة، وأولها أن الانسحاب سيطيح بانجازهم في شمال شرق سوريا المتمثل بهزيمة “داعش”، ويجعله كأنه لم يكن، وهو أيضاً تفريط بالقوة المحلية الوحيدة التي تحالفت معهم في حروبهم ضد الجهاديين، سواء في أفغانستان أو العراق أو سوريا. كما أن الانسحاب، سيفتح باب الهزيمة الأميركية أمام ايران المستعدة في شرق الفرات لملء الفراغ. وهو أخيراً يحط أكثر فأكثر بمصداقية الولايات المتحدة، وتصورات القوة عنها، وهو ما يستكبره ويشكو منه جنرالات البنتاغون.
بالنسبة للطرف الكردي، الذي حسم أمره بالمواجهة، ومع تقييد حركة الطيران التركي، فإن فرصتهم بالصمود ستكون عالية بتأخير انتصار القوات التي تدفعها تركيا، ما سيزيد من التعاطف المتصاعد معهم، أميركياً وغربياً، وحتى سورياً. وستتخذ المعركة في الاعلام ابعاداً بطولية قد تدفع عدداً من مناصريهم للتحرك، ودعم موقفهم، خاصة من أعداء تركيا الألداء في الاقليم، وبالتالي قد تنقلب العملية ضد انقرة، خاصة أن الاميركان قالوا إنهم “سيبتعدون” فقط عن المنطقة الحدودية، ليحل الاتراك والأكراد مشاكلهما. وهي عبارة غير مطمئنة في لغة السياسة والأمن، أو هكذا يجب أن تقرأ، خاصة مع قرار تقييد حركة الطيران التركي.
لكن الأكراد سيخسرون بالتأكيد فيما لو واصلوا لغتهم الانفعالية الحالية، وصب جام الغضب على الحليف الأميركي الذي خذلهم، وفيما لو واصلوا سحب قواتهم من مناطق تواجد تنظيم “داعش” السري. وستكون أكبر اخطائهم في محاولة ابتزاز المجتمع الدولي بقضية محتجزي التنظيم.
وستكون انقرة في مأزق حقيقي فيما لو انصب اهتمام “قسد” على العملية العسكرية، والصبر حتى تتغير الرياح، في الاقليم وفي واشنطن ذاتها. هجوم الديموقراطيين، وأجنحة من الجمهوريين على ترامب، لا بد أن يأتي ببعض النتائج، أما موقف العسكريين فسيكون حاسماً، وهم ليسوا كتاب تغريدات وأعمدة في الصحف، بل انهم قادة ميدانيون، يمكن لمعطى واحد يقدموه عن تقدم لـ”داعش”، أو الايرانيين، ان يقلب الموازين. وكان لافتاً، حجم التفاعل مع تغريدة للمبعوث الاميركي السابق لـ”التحالف” بريت ماكغورك، الذي تساءل: “يقول الرئيس إننا سنسحق داعش لو اقترب منا ثانية، مع من، ومن سيثق بنا ليتحالف معنا بعد الآن؟!”.
لكن أي سبيل سياسي يمكن أن تأخذه أنقرة فيما لو قررت العدول عن العملية العسكرية؟ الولايات المتحدة تضغط منذ فترة لا بأس بها لاحياء العملية التفاوضية بين حزب “العمال الكردستاني” وانقرة، لايجاد تسوية دائمة لهذا الملف. وجرت مفاوضات جديدة مطلع هذا الصيف في أوسلو، بين رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، وممثل عن قنديل وآخر عن “قسد”، لايجاد تسوية، ترتكز على اطلاق سراح عبدالله اوجلان، ليقود عملية سلام تاريخية. لكن المفاوضات تعثرت منتصف الصيف، ولم تستأنف بعد. ولربما يلعب رفع أميركا اليد جزئياً عن “قسد”، كنوع من الضغط على “العمال الكردستاني” الحديدي المتصلب، لجعله أكثر مرونة وقابلية للتفاوض، وحل العقدة التركية الأخطر، التي تهدد بتدمير العلاقة الاستراتيجية بين انقرة والغرب عموماً.
المدن 8 تشرين اﻷول/اكتوبر 2019