حسام جزماتي
أعادت غزوة هيئة تحرير الشام على مدينة عفرين ومناطق أخرى في الشمال السوري تقع ضمن سيطرة فصائل من الجيش الوطني، طرح مسألة تصنيف الهيئة على قوائم الإرهاب لدى العديد من الدول وفي قائمتها الأمم المتحدة.
تحت صليل البنادق دفعت الهيئة خصومها إلى تناسي الأمر والتوقيع على اتفاق يتيح لها إدارة المناطق المحررة، بما فيها أراضي “غصن الزيتون” و”درع الفرات” اللتين تحكمهما، جزئياً، الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف، وتتسمان بحضور كبير للنفوذ التركي.
وإثر توقيع الاتفاق، الذي لم يعمّر طويلاً، مع الفيلق الثالث؛ سارع خصوم تقليديون للهيئة إلى التحذير من خطر تمددها الذي سيصبغ المنطقة بالإرهاب، ولم تتأخر الطائرات الروسية عن تأكيد ذلك حين قصفت في هذه المناطق التي كانت مشمولة بالهدنة الموقعة بين تركيا وروسيا.
غصّت الهيئة لفقدان الغنيمة التي انتزعتها على حين غرة عسكرية وتفاوضية. فبادر أبو ماريا القحطاني العراقي، أحد أبرز قادتها والذي ظهر على يمين الجولاني في الصورة التي التقطت أثناء الاتفاق، ليكتب على قناته في تلغرام إن “شماعة التصنيف لم يعد لها معنى في ظل الظروف التي يعيشها العالم، مفاهيم تغيرت عند دول وشعوب ولكن البعض يصر أن يطنطن حول موضوع التصنيف بسبب ضعف حجته”.
ليتبعه مظهر الويس، الرجل المحشو بالمناصب؛ ومنها شرعي الجناح العسكري والمشرف من الهيئة على وزارة العدل في حكومة الإنقاذ، فيغرّد: “إدلب الخضراء خضراء بأهلها وشعبها وثوارها ومجاهديها، وستبقى خضراء بإذن الله موئلاً للصادقين وحضناً للأحرار، ولن يضير هذه اللوحة الجميلة تصنيفات سوداء من نفوس سودها الحقد بالسواد”.
وإذا كانت تغريدة الويس أقرب إلى الشعر الرديء الذي يحلو له نظمه في أوقات فراغه القليلة، فإن أبا ماريا، الذي يصفه عارفوه بالمكر، يحاول أن يوحي لقارئيه، داخل الهيئة وخارجها، أن شيئاً ما قد تغير أو على وشك التغير في هذا الملف، مستغلاً جهل الجمهور بآليات التصنيف وظنهم أنه مجرد أوامر سياسية عليا بطريقة “هيك بدو المعلم”!
في تموز الماضي كتب هارون زيلين، المختص بالجهاديين والزميل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، مقالاً بعنوان “لماذا من الصعب للغاية الشطب من قائمة الإرهاب؟”، أشار فيه إلى محاولة هيئة تحرير الشام شطب اسمها من القوائم. مبيّناً أنه على الرغم من انفصال الهيئة عن جماعتها الأم، دولة العراق الإسلامية (داعش لاحقاً)، وعن تنظيم القاعدة الذي لجأت إليه بين عامي 2013 و2016، فإنها ما تزال تحتفظ بآراء متطرفة وتعمل كنظام استبدادي في المناطق التي تسيطر عليها.
وفي استعراض لخمس جماعات جهادية تم شطبها من القائمة منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، فإن أياً من هذه الجماعات لم تكن قائمة عند شطبها، ولم تُشطب جماعة جهادية تواصل عملياتها النشطة، وهناك عدد من الجماعات الجهادية ما تزال في القائمة رغم أنها لم تعد موجودة. هذا في ما يخص قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية الصادرة عن وزارة الخارجية الأميركية فقط، لتبقى قائمة الإرهابيين العالميين التابعة لوزارة الخزانة الأميركية، والتي أُدرجت فيها الهيئة جماعة وقيادتها كأفراد. فضلاً عن قائمة الأمم المتحدة للإرهاب، والتي تضع هيئة تحرير الشام تحت العقوبات، وأميركا ملزَمة قانوناً باتباع قائمة الأمم المتحدة. دون الدخول في التعقيدات القانونية للدول الأخرى التي صنّفت الهيئة في قوائمها الخاصة بالمنظمات الإرهابية.
تمدد الهيئة خطر جدي إذاً. ليس مجرد “طنطنة” وفق التعبير الطربي لأبي ماريا، ولا نفوساً خضراء وسوداء كما قالت لوحة الويس الساذجة. بل نتائج لن تتأخر في الحلول على المنطقة؛ قصفاً، وتعقيداً لعمل المنظمات الإنسانية الدولية ولآلية إدخال المساعدات عبر الحدود ولتشجيع الاستثمار، وحتى لعودة اللاجئين الطوعية التي تراهن عليها تركيا. فضلاً عما قد يطول شركاء الهيئة وحلفاءها العسكريين ومموليها، أفراداً وفصائل، من إصابة بـ”عدوى التصنيف”.
لكن اللافت أن قليلاً من سكّان الشمال يأبهون لهذا بعد كل ما عانوه من خذلان يحمّلون المجتمع الدولي مسؤوليته، بل إن نزعة المروق عن قوانين هذا “العالم” وتحدي ورقياته تبدو أقرب إلى مزاجهم الرافض الذي عانى طويلاً دون أن يحصل على ما يستحق من عدالة. مما يحيل إلى أن المواقف العدمية والمستهترة لن تزول إلا بحل نهائي للمسألة السورية.
كما يجدر أن نتذكر هنا أن السوريين لم يقطعوا تماماً مع خردة الثقافة السياسية لحزب البعث. ومنها القناعة أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين يُدخلون من شاؤوا في قوائم الإرهاب ويُخرجون من أرادوا وفق الاتجاهات السياسية والمصالح المتغيرة، دون اعتماد أنظمة دقيقة تضعها جهات حكومية مختصة بذلك. والتشكيك في المعايير الغربية للوصف بالإرهاب، مما كان حافظ الأسد قد كرره مراراً داعياً إلى مؤتمر دولي لتعريف الإرهاب. وهو ما قاله أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، للصحفي الأميركي مارتن سميث، في شباط 2021، حين سأله عن الأمر فأجاب: “هذا التصنيف جائر وهو تصنيف سياسي… يبدو أنه مسيّس… نحن نريد أن نناقش مسألة: ما تعريف الإرهاب؟”.
يستغل أنصار الهيئة حواراً كالذي جرى مع سميث، وأبحاثاً كتبها دارسون عن تغيّر نسبي في توجهات الهيئة، للإيحاء بأن الغرب يفتح معها “قنوات اتصال”. وكأن الصحفي الأميركي موظف في “الإخبارية السورية” أو أن الباحث الأوروبي مكلّف من فرع أمني يراجعه قبل سفره إلى إدلب ويزوده بتقرير إثر عودته.
والواقع أن قلة قليلة فقط من الباحثين الغربيين يدعون إلى ملاحظة التغيرات الجولانية، فيما يتمسك أكثر المعنيين بالشرق الأوسط في مراكز الأبحاث، وصنّاع السياسات حوله، بموقف حازم من الهيئة يدعو إلى حلها ومحاسبة قادتها في الوقت المناسب. وهو ما يعيه هؤلاء فيهربون إلى الأمام مجدداً كل مرة محاولين خلط أوراقهم بدفاتر الآخرين، متسترين بأهداف الاندماج ودعاوى وحدة الصف والشراكة في الساحة، ريثما يتصدروها ويسِموها بالإرهاب ويعمّموا ورطتهم الخاصة على الكل.
المصدر: تلفزيون سوريا