عبد الناصر العايد
تتسارع الأخبار الآتية من تركيا في ما يخص سوريا، من التجهيز لعملية اجتياح برية كبرى، إلى إعلان أردوغان استعداده للقاء رأس النظام السوري، إلى مباركة موسكو لهذه الخطوة، إلى الصمت الأميركي عن الغارات التركية على قوات سوريا الديموقراطية.. وفي خضم هذه الأخبار التي تدل على تحول مفصلي في القضية السورية، يمرّ خبر صغير لا يكاد يلفت اهتمام أحد، هو لقاء وُصف بالشخصي بين وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، والدبلوماسي الأمريكي جيمس جيفري الذي لا يحمل أي صفة رسمية سواء كونه سفيراً سابقاً. فهل يشكل هذا الظهور مفتاحاً لفهم ما يحدث في كواليس القضية السورية؟
يمكننا القول، مع بعض الجرأة، إن جيمس جيفري وكان وما زال السياسي الأميركي المعاصر الأكثر خبرة ومعرفة بالشأن التركي، الأمر الذي أهّله لصياغة جزء كبير من علاقة البيت الأبيض مع أنقرة، بتأثير مزدوج في إدارة بلاده من ناحية، وفي القيادة التركية من ناحية أخرى.
شغل جيفري مناصب عليا في الدبلوماسية الأميركية عقب تركه للجيش الذي كان ضابطاً في مشاته من العام 1969 إلى العام 1976، وعمل نائباً لمستشار الأمن القومي وسفيراً للولايات المتحدة في ألبانيا بين 2002 و2004. وفي العام 2010 تم تقليد جيفري أعلى رتبة في وزارة الخارجية الأميركية، لكن مهمتيه اللتين صنعتا نفوذه وسمعته في الشرق الأوسط كانتا منصبه كسفير للولايات المتحدة في تركيا بين 2008 و2010، وسفيرها في العراق بين 2010 و2012.
وعلاقة جيفري بتركيا تمتد إلى نحو نصف قرن، ففي أيار/مايو1981 انتُدب كضابط في الموقع وممثل للولايات المتحدة في قضية خطف طائرة مدنية تركية على متنها خمسة رجال أعمال أميركيين أُخذوا كرهائن في بلغاريا. بعد ذلك، عمل في مهام مختلفة، في كل من أضنة وأنقرة، كضابط سياسي عسكري بين 1983 و1987. تولى بعد ذلك مهام ليست بعيدة من الشأن التركي، مثل عمله في البوسنة كمستشار للرئيس الأميركي في ما يخص تنفيذ اتفاقيات دايتون، وفي العام 1999 عاد إلى تركيا كنائب لرئيس البعثة الدبلوماسية.
عيّن الرئيس جورج دبليو بوش، جيفري، سفيراً في تركيا العام 2008، وفي 2010 نقله الرئيس باراك أوباما سفيراً في العراق، التي تعتبر شأناً حيوياً مباشراً لتركيا. وفي 2018، عاد جيفري إلى صلب القضايا التركية عندما عينه دونالد ترامب ممثلاً خاصاً للولايات المتحدة بشأن سوريا، وفي 2019 أضيف لمهمته تلك منصب المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف الدولي لمحاربة داعش، وتقريباً اتخذ من تركيا مقراً لتحركاته، وربط نفسه بعلاقات وثيقة مع أعلى القيادات السياسية والعسكرية والأمنية التركية.
انعكس فهم جيفري للحياة السياسية الداخلية لتركيا وعلاقاتها الخارجية، على مكانته في أنقرة، إذا بدا موثوقاً ومسموع الصوت في دوائر صنع القرار التركي، واستطاع التأثير في القرارات التركية بالقدر ذاته الذي ساهم فيه بصياغة العلاقة من جهة واشنطن.
ويبدو أن رؤى جيفري في قضايا النزاع في الشرق الأوسط تتطابق إلى حد بعيد مع الرؤية التركية. ففي ما يتعلق الموضوع الكردي، على سبيل المثال، يعتقد الرجل إنه من الخطورة بمكان منح الأكراد أي وهم بإقامة دولة متجزأة من الدولة التركية أو مقتطعة من عموم دول المنطقة، وهو الأمر الذي انعكس على علاقته بقيادة قوات سوريا الديموقراطية الكردية عندما تولى منصب الممثل الخاص للرئيس الأميركي في التحالف الدولي لمحاربة داعش. إذ نُقل عنه في مناسبات كثيرة، تنبيهه لتلك القيادات إلى أن العلاقة معهم محصورة في محاربة داعش، لا لإقامة دولة أو إقليم كردي، وأن ذلك الطرح غير وارد على الإطلاق. وعلى خلفية تأكيداته تلك، كان يوم استقالته من منصبه يوماً بهيجاً للقيادة الكردية.
لجيفري أيضاً موقف حازم من إيران ومشاريعها التوسعية، التي خبرها إبان عمله سفيراً في العراق، ويعتقد أن الدور الإيراني لا بد من موازنته بنفوذ تركي في عموم منطقة الشرق الأوسط، إذا ما أريد له ألا يتجاوز الحدود الذي تجعله تدميرياً.
أما كمبعوث خاص إلى سوريا، فإن جيفري يرى أن السماح “بانتصار نظام الأسد سيرسل رسالة إلى الحكام المستبدين في أنحاء العالم مفادها أن القتل الجماعي هو تكتيك قابل للتطبيق للاحتفاظ بالسلطة”. وحمّل نظام الأسد مسؤولية ظهور تنظيم داعش والتمدد الإيراني وتمكين الروس من الحصول على موقع استراتيجي في الشرق الأوسط. وطالب الإدارات الأميركية المتعاقبة بعدم السماح باستمرار الصراع في سوريا مع مأساة إنسانية ومخاطر أمنية، إلى ما لا نهاية.
إلى جانب موقفه هذا، يحمل جيمس جيفري مشروعاً للحل في سوريا، دافع عنه مراراً في محافل غير رسمية، لا يجده مثالياً إطلاقاً، لكنه يعتقد أنه أفضل من استمرار الصراع. ويقوم تصوره على أن تقود الإدارة الأميركية جهوداً سياسية بالشراكة مع روسيا حصراً، لإنهاء الصراع وفق الخطوات التالية: خفض التصعيد خطوة بخطوة من كافة الأطراف، فرض لائحة من التنازلات السياسية على نظام الأسد لضمان عودة اللاجئين المراقبة دولياً، وإعادة دمج قوات المعارضة وقوات سوريا الديموقراطية في الجيش السوري، وتقديم ضمانات أمنية لتركيا في حدودها الجنوبية، وإزالة الأسلحة الاستراتيجية الإيرانية من الأراضي السورية وخصوصاً الصواريخ..
ويعتقد جيفري أن روسيا ستطلب في المقابل انسحاباً للقوات الأميركية والإسرائيلية والتركية من سوريا، كما يرجح أن تطلب تعاوناً أميركياً في مكافحة داعش، وتخفيف العقوبات على نظام الأسد، وقد تفكر أيضاً بطلب فتح باب الاستثمار الأجنبي في سوريا. ويرى جيفري أن التفاوت في المواقف هذه سيُحلّ عبر التفاوض، لكن يجب تثبيته عبر قرار جديد من مجلس الأمن، لإبرام هذه الصفقة وفرض رقابة على التزامات كل جانب.
لقد أشار جيفري أكثر من مرة، إلى أن واشنطن جربت سبيل التفاهم مع موسكو لعقد صفقة حول سوريا، ويشير بشكل محدد إلى عرض إدارة ترامب حلاً وسطاً يقوم بشكل عام على إنهاء الضغط الدولي على نظام الأسد، مقابل تنازلات في القضايا الجيوستراتيجية. ووفقه، فقد كان هذا الاقتراح جذاباً بشكل كاف لبوتين، ما دفعه لدعوة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى سوتشي في أيار/مايو 2019، لتدارس المقترح، لكن بوتين رفضه في النهاية. ويرجح جيفري إن سبب الرفض كان اعتقاد بوتين في ذلك الحين أنه يستطيع أن يحقق أهدافه في سوريا من خلال نصر عسكري كامل. وهو الأمر الذي أصبح بعيد المنال في الوقت الحاضر مع التورط الروسي في أوكرانيا، وعجز نظام الأسد وضعفه البالغ. ويعتقد جيفري أن موسكو باتت أكثر استعداداً لعقد هذا الاتفاق، بل أنها قد تكون أكثر استعداداً مما تظن إدارة جو بايدن.
في عود على بدء، يمكننا أن نتساءل، هل قام الدبلوماسي الأميركي المخضرم بعمله في الخفاء، ونسق بين أطراف النزاع لعقد الصفقة التي بشّر بها لسنوات؟ تبدو كل الظروف مواتية لذلك، بل يستطيع المرء أن يغامر فيعتبر التطورات الدراماتيكية الجارية إعلان بدء العمل بتلك الصفقة.
المصدر: المدن