عمر قدور
قبل سنوات دأب موالو الأسد على القول: رحل فلان وبقي الأسد. هكذا كان الحال مثلاً عندما انتهت ولاية الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا أولاند، وعندما غادر أوباما البيت الأبيض، رغم أنه لا يستحق شماتة أنصار بشار بعد سخائه عليه باتفاق الكيماوي. الفكرة الأساسية من وجهة نظر هؤلاء هي ترسيخ فكرة “الأسد إلى الأبد”، وهي فكرة ظهرت إلى الوجود مع انتصار الأب على الإخوان في مطلع الثمانينات، ثم صار للأبد عنوان شخصي واضح مع إقصاء العم رفعت وإشهار مشروع توريث باسل بدءاً من منتصف الثمانينات.
قياساً على ذلك يمكن القول: رحلت ليز تراس، أو رحل بولسونارو، وبقي الأسد. لولا أن الأولى شغلت منصب رئاسة وزراء إنكلترا لمدة شهر ونصف فحسب، بينما الثاني بعيد عن اهتمامات موالي الأسد طالما أن البرازيل ليست من ضمن “المؤامرة الكونية” على محبوبهم. الحق أن الحدث الأقرب، والأهم الذي يمكن اسخدامه لخدمة الفكرة ذاتها، ذهابُ هيفا وهبي إلى السعودية ومشاركتها في افتتاح حفلات “موسم الرياض”. بل إنه حدث أقوى للمقارنة المذكورة، فعودة قائد سياسي منتَخب إلى بيته في أي بلد هي إجراء روتيني جداً، بينما غناء هيفا في السعودية لم يكن ليتوقعه أحد قبل سنوات.
يجوز في المقلب المعاكس أن يُقال لموالي الأسد: ها هي هيفا في السعودية وبقي الأسد. ولن يكون الاستطراد ضرورياً بالقول أن أسدهم بقي على حاله، بلا تغيير على الإطلاق، فالأصل في كلامهم عن بقائهم هو ثباته على حاله، وعدم تغير مواقفه في ما يخص شؤون الداخل تحديداً، أي في ما يخص الطبيعة المعروفة لعلاقته بمحكوميه. أما خارجياً، فمن المنتظَر دائماً أن يغير الغرب مواقفه، وأن يرحل قادة كان لهم مواقف ضد الأسد ليأتي بدلاء أكثر تفهماً وليناً إزاءه، وهكذا لا بد في النهاية من أن ينتصر الأسد، لأنه ثابت صامد بينما هم يتغيرون، ومن ضمن التغير لا بد من مجيء قادة يدركون خطيئة أسلافهم بمعاداته.
في ما يطابق الفكرة السابقة، راج عن الأسد الأب أنه صاحب “دبلوماسية ملء المثانة”، وهو وصف على سبيل المديح يُنسب إلى هنري كيسنجر، وليس هناك أقوى من مديح يطلقه “عدو” أمريكي مُرغَماً. حسب تلك الرواية، كان لدى الأسد قدرة استثنائية على الصبر ومقاومة الرغبة في التبول، وكان يستغلها مع ضيوفه الغربيين وهو يسهب أمامهم في أحاديث عن التاريخ، غير ذات صلة بالمباحثات، بينما تتفاقم رغبة الضيف في الذهاب إلى الحمام، وبسببها يتخلى عن طرح العديد من المطالب التي أتى لأجلها!
ربما لا تكون هناك حالة أخرى مشابهة في العالم كله، حالة يُمدح فيها الثبات بوعي وإصرار؛ تحديداً بوعي كونه مناقضاً للتغيير. ورفض التغيير الذي يبدأ من رفض تغيير رأس الهرم “الأسد” لا بد من أن يتعمم على الهرم كله، وهكذا يصبح التغيير مذموماً حتى عندما يباهي موالو الأسد بحداثة ينسبونها للابن بعدما نسبوا تأسيسها للأب. غناء هيفا في السعودية له مغزى خاص على هذا الصعيد، إذ لطالما تباهى الأسديون بحداثة متفوقة تحديداً على دول الخليج، والتي وفق منطوقهم غارقة بالثراء النفطي والتخلف معاً. وفق تلك الصورة النمطية، لا يمكن تخيُّل هيفا في السعودية، على غرار ما هو طبيعي لجهة غنائها في سوريا، وذهابها إلى السعودية فيها خرق لطبائع الأحوال، ولنا أن نتخيل كيف أن هذا الخرق حدث في حين بقي الأسد صامداً ثابتاً على حاله.
وكي لا يُفهم حديثنا عن استقبال وغناء هيفا في السعودية امتداحاً من أي نوع، نحن لا نرى فيه سوى عودة إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحال. أيضاً، على نحو خاص، نأمل في أن تكون هذه العودة من ضمن انفتاح أوسع على مختلف الصعد، بما فيها السياسي، فلا يكون التساهل إزاء الحريات الاجتماعية غطاء لقمع الحريات السياسية، وهذا النوع من المسموح به هو ما تاجر به الأسد لإظهار نفسه حداثياً.
لقد أحدثت دعوة هيفا إلى السعودية ضجة بسبب اجتماع الصورة النمطية عن السعودية وعنها هي أيضاً، ما يبقى له مبررات وجيهة بالمقارنة مع الضجة التي يفتعلها إعلام الأسد عندما تُقام أية حفلة لمغنية أو مغنٍّ زائر، كما شهدنا لدى استقبال هاني شاكر مؤخراً. هو الاختلاف بين الذين يريدون القول إنهم يتغيرون، وأولئك الذين يريدون القول أن شيئاً ما لم يتغير، بما في ذلك أن كل الكلام عن عزلة الأسد وانهيار اقتصاده وفقر مواليه لا يمنع إقامة حفلات على النحو الذي كان يحدث من قبل. مرة أخرى، القيمة هنا للثبات، وللصبر حتى تمتلئ مثانات أصحاب المؤامرة الكونية فيولّوا الأدبار، ويعود المغنون الضيوف إعلاناً عن النصر.
الحق أن أية مقارنة طرفها الأسد هي ظالمة، حتى يثبت العكس، لطرفها الآخر. هذا ما يستحسن بأصحاب المؤامرة الكونية الانتباه إليه، وهم يطرحون فكرة التغيير في سلطة الأسد وإعادة تدويره، بدلاً من تغييره وتغيير بنية سلطته. فالمراهنة على التغيير ضمن السلطة لا تلحظ ما هو ضروري وحاسم لجهة ممانعتها أي تغيير، ورفض التغيير هو في صلبها لأن الشروع فيه يهددها بالانهيار. بهذا المعنى، كان الأسد أميناً لنفسه عندما رفض تقديم أدنى تنازل عام2011، وقبلها كان مخلصاً لنفسه وأبيه عندما أنهى سريعاً مسرحية “ربيع دمشق” وآمالَ العديد من المعارضين فيها أن يتولى بنفسه قيادة التغيير.
نحن، عطفاً على ما يرمز إليه ذهاب هيفا إلى السعودية، نستطيع توقع الكثير من التغيرات في العديد من بلدان المنطقة، أو على الأقل عدم استبعادها بما أن لدينا نموذج وحيد فريد عن إبادة مئات الألوف كان يمكن أن يتحاشى فعلها لو قبِل الأسد بقليل من التغيير، أي لو استطاع خيانة نفسه قليلاً. إن الواقع السوري المزري بكافة تفاصيله، لا الدموية فحسب، هو الترجمة الأمينة لمفهوم الأبد الأسدي. ذلك، طالما بقي الأسد، يعني أن يرى السوريون العالم وهو يتغير، صعوداً أو هبوطاً لا يهم، وكأنهم طوال الوقت يرون ما ليس لهم حق في الحصول عليه. باستثناء قلة من مادحي دبلوماسية ملء المثانة، وطالما بقي الأسد، سيكون هناك دائماً ثمن دموي وباهظ كلما قرر السوريون الانتماء إلى العصر.
المصدر: المدن