عبد الناصر العايد
تصاعد النقاش السوري على خلفية ما بات يعرف بانتفاضة السويداء في الرابع من الشهر الجاري، وتطرق لمواضيع مستجدة نوعاً ما في الفضاء السوري، ووضع تحت الضوء قضايا غابت خلال العقد الماضي. والأهم هو أن النقاش والاصطفاف في ما يخص هذه القضايا، امتد إلى مختلف تدرجات الطيف السوري، بين مع وضد. وبإمكان المتابع أن يرصد في ضجيج وسائل التواصل، وضباب مقالات سريعة دُبجت بهذه المناسبة، ملامح الانقسام الشهير عالمياً بين يسار ويمين، بنسخة سورية، أو بدقة أكبر: مسودة النسخة السورية من هذا الانقسام.
كما هو معروف، بدأ العمل بتصنيف يمين يسار، تاريخياً، إبان الثورة الفرنسية. ففي مناقشات آب وأيلول 1789، جلس النواب المؤيدون للإبقاء على سلطات الملك على يمين رئيس المجلس، فيما جلس النواب المطالبون بتقييد هذه السلطات على يساره. وقد كانت انتفاضة السويداء بالعموم نوعاً من رفض سلطة بشار الأسد بالكامل، بينما كان موقف من ناهضوا هذا التحرك من مؤيدي بشار الأسد بالمعنى القرابي والطائفي، أو الذين يتماهون مع نهجه اليميني ويجدون أنفسهم فيه.
يستغرب البعض بطبيعة الحال أن نصف نظام بشار الأسد باليميني، لكن هذا هو الوصف الدقيق له علمياً، بغض النظر عن ادعاءاته التقدمية التي يروج لها ليل نهار، فهو نظام قائم على الوراثة، وهو أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن اليمين. ثم أنه نظام يحمل مزاعم قومية، مع ما يترتب عليها من منظومة ذهنية تركز على الهويات الإثنية والثقافية كطريقة في تصنيف البشر، وإضفاء صفات سلبية تشمل كامل تلك المجموعات من دون تمييز، ما ينعكس داخلياً في عقل النظام على شكل نزوع دائم لتصنيف السوريين إلى جماعات اثنية، بمن فيهم العرب الذين يدعي الانتماء إليهم، مثل ما أُسبغ على أهالي السويداء وبشكل جماعي من قبل القاعدة الطائفية للنظام، من كونهم عملاء لإسرائيل مثلاً، أي خونة للوطنية، أو وصم جماعة أخرى بالوهابية لإضفاء سمة الإرهاب عليهم. بل ينزع محازبو النظام أحياناً إلى إيجاد قومية متخيلة تجمعهم وتنأى بهم عن السوريين الآخرين، كأن يكونوا سلاسة علي بن ابي طالب، أو أن يكونوا فينيقيين من سكان الساحل، أو غير ذلك من ضروب التفكير التي توافق العقل اليميني. لكن أوضح سمات اليمينية في نظام الأسد تكمن في طائفيته، أي الدينية، التي يتأسس عليها كل يمين معروف تقريباً، ويحيل إلى حق فوق طبيعي في السلطة أو الحكم، وإلى احتقار البشر وعدم الاعتراف بأهليتهم، أو بقيمتهم الإنسانية.
لكن توصيف نظام الأسد بأنه يميني لا يعني تلقائياً أن من ناهضوه وحاربوه هم بالضرورة من اليسار. ثمّة جماعات بين مناهضي نظام الأسد، أشد يمينية منه، ولديهم النظام الذهني ذاته، لكن بمضمون مختلف، أي بجذور طائفية أو إثنية، سواء تعلق الأمر بجماعات سنيّة أو كرديّة أو حتى درزيّة ممن شاركت في انتفاضة السويداء ورفعت علم “الحدود الخمسة” مثلاً، معلنة أن دافعها الأساسي هو الحفاظ على الوجود والثقافة، أي الدين، الخاص بالجماعة، كما تعلن جماعات سنيّة بشكل صريح أن هدفها هو استعادة حكم البلاد وإقامة الشريعة، وتعلن مجموعات كرديّة أن هدفها هو الحصول على الاعتراف بالهوية القومية وحقوقها.
ووفق علماء الاجتماع السياسي، فإن الانقسام بين يمين ويسار يتمحور حول فكرة الثقافة الخاصة، أي الأعراف الإثنية أو الدينية التي يتمسك بها اليمينيون، ويكافحون للمحافظة عليها، فيما يكافح اليساريون من أجل فكرة التقدم. وينشأ عن التصنيف الثقافي السابق، نوع من التسلسل الهرمي في ذهن اليمينيين، يصنف البشر إلى جماعات متفوقة على غيرها، وبالتالي هناك من يستحق وهناك من لا يستحق، من دون النظر إلى الوقائع والمؤهلات، أي استحقاق بالولادة، تستتبعه بالضرورة واجبات بحكم الولادة تترتب على الفرد، بينما يعتنق اليسار فكرة المساواة والعدالة الاجتماعية.
للوهلة الأولى قد يجد القارئ أن محاولتنا إسباغ هذا النموذج المفاهيمي على الحالة السورية غير مُجدٍ، وهذا وجيه نوعاً ما، لأن الموقع المعتاد لرؤية هذا الانقسام هو البرلمانات، وهو ما تفتقد إليه حالة سوريا. لكن، من ناحية أخرى، لا يمكن أن ننكر اليوم أن أفراداً وجماعات ومنظمات تقف بقوة على ضفة اليمين، مثل الجماعات الدينية من مختلف الطوائف، والتنظيمات ذات الطابع القبلي العشائري العربي، ومجموعات كرديّة وسريانية وآشورية، وهذه جميعاً ستجد نفسها ذات يوم وقد اصطفت جنباً إلى جنب مع منظومة نظام الأسد الحالية، أو ما سيتبقى منها، عندما يتم الانتقال إلى العمل السياسي الذي لا بد من العودة إليه. لكن يبقى التشكيك محل المصداقية هو في افتراضنا وجود يسار سوري بالمعنى الآنف ذكره، فهو غير مرئي في الواقع، وإن كان محسوساً فإن وجوده غير ملموس، أي أنه ليس منظماً في أطر أو جماعات أو هياكل، وهذا الواقع بيّن لكل من يستعرض الجدل والنقاش الدائر. فالأصوات “اليسارية”، أي تلك التي تتعاطى مع انتفاضة السويداء كمطلب عدالة اجتماعية، وتتعامل مع أصحابها على قدم المساواة مع أي سوري آخر من دون التطرق لخلفية المحتجين الدينية، هي أصوات متباعدة وخجولة، وسرعان ما تنكفئ عند أول هجوم مضاد عليها.
سيمرّ الزمن، ويهدأ الصراع، وتتراجع قيمة السلاح والروابط القرابية والطائفية كمحددات للقوة، وسيُحال التعارض في وجهات النظر، الجاري اليوم في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى صناديق الانتخابات. وسيكون اليسار السياسي حينها أكثر وضوحاً، له أسماء وعناوين معروفة، لكن قوته ستبقى محل شك، فهذا يعتمد على قدرة اليساريين، ومنذ الآن، على تأطير أنفسهم في برامج سياسية، وأن يعوا مركزيتهم في الحياة السياسية الآتية بلا ريب، وأن يكونوا أكثر جرأة وثقة في النفس. إذ أنهم القطب الآخر من صراع بين رؤيتين كونيتين متعارضتين، والحياة السياسية المعاصرة هي في الواقع ما يجري بين هاتين الرؤيتين من تناوب، على أساس القوة والضعف.
المصدر: المدن