عبد الناصر العايد
لا يثير التلهف التركي غير المفهوم لملاقاة الأسد، قلق المعارضة السورية وحدها، بل يثير أيضاً ريبة نظام الأسد. فالتودد التركي يتجاوز ما يستدعيه استخدام المصالحة كورقة انتخابية داخلية. وجدية الخطوات التي تكشف عنها أنقرة كل يوم، تتجاوز التكهنات التي صنفتها في خانة المناورات التكتيكية المحدودة في أواسط الصيف، فما حقيقة انعطاف أردوغان نحو بشار الأسد، وماذا يريد منه؟
بداية، ربما كانت ضغوط المعارضة التركية في قضية اللاجئين السوريين، هي نقطة انطلاق أردوغان عندما قرر الاستدارة نحو دمشق، وتخليص خصومه من تلك الورقة. لكن هذا التكتيك كشف له عن حزمة من المكاسب غير المحدودة التي قد يجنيها تباعاً فيما لو أوغل في هذا المسار حتى أقصى نهاياته الممكنة.
إن الدور الوظيفي لسوريا اليوم، هو كونها سوق السياسة المفتوح في الإقليم، بعدما كانت سوقاً للسياسة العالمية على مدى عقد من الزمان، تصفي فيه كافة الأطراف صراعاتها وتسوي مشاكلها البينية وترسل الرسائل إلى بعضها البعض. لكن، ومنذ حلول الروس في البلد، بدأت عملية إغلاق السوق هذا بالتدريج، ليقتصر على اللاعبين الأكثر التصاقاً حيوياً به، أي روسيا وإيران وتركيا، وفق خطة قادتها موسكو لعزل الملف السوري عن سياقه الدولي وإدارته إقليمياً بالتفاهم بين اللاعبين الثلاثة وفق صيغة مؤتمرات استانا، وقد حقق هذا المسعى نجاحات كبيرة منذ الإعلان عن مناطق خفض التصعيد وتفكيك الجبهات الكبرى لقوى المعارضة العسكرية في محيط دمشق وحوران ووسط سوريا وشمالها، لينحصر الوجود العسكري للمعارضة في المناطق الملاصقة للحدود التركية، مع وجود عسكري خامل تابع لواشنطن في كل من التنف والجزيرة السورية.
إن تركيا، بمبادرتها الأخيرة، تضع نفسها في وسط السوق، لا كمُمسك بشؤون المعارضة ومُقرّر فيها فحسب، بل كمؤثر مباشر في الطرف الآخر، متقدمة في أولويتها على شريكي أستانة المرفوضين من جانب المعارضة، وقد ترمي من وراء هذا التطور الذي يمكن وصفه بالاختراق، إلى استقطاب الدول العربية الرافضة للوجود الإيراني في البلد موضوع النزاع، وتمثيل مصالحها وتطلعها إلى منع سقوط سوريا في السلة الإيرانية بشكل كامل كما حدث في العراق. ولا يُستبعد أن تكون هذه الاستدارة وبهذا الزخم، مدفوعة برغبة خليجية، خصوصاً من السعودية والامارات، ومشفوعة بوعود مغرية على الصعيد الاقتصادي.
وعلى هذا الصعيد أيضاً، أي إطار الاتجاه لتطويق القضية السورية إقليمياً، تتحسب تركيا وتتطلع إلى تمثيل الجانب الغربي، خصوصاً الأميركي، في صفقة ثانوية قد يسفر عنها الصراع في أوكرانيا. فأي تسوية للنزاع هناك ستتضمن بلا شك تحديد مناطق النفوذ الروسي في خريطة العلاقات الدولية. وسوريا، المعترف بها أميركياً منذ زمن طويل، منطقة روسية، قد تصبح كذلك على نحو مكرس من خلال سحب واشنطن لقواتها العسكرية من سوريا، لكنها ستوكل تركيا بتمثيل مصالحها ومصالح الدول الغربية وإسرائيل في هذا الملف الشائك. وهنا أيضاً، لن يكون مفاجئاً أن تكشف المراحل المقبلة عن تفاهم عميق غير معلن بين الطرفين حول هذه المسألة، إذ من الصعب تخيل التحول الاستراتيجي التركي بالضد أو للكيد بواشنطن، لا سيما في مرحلة الاستحقاق الانتخابي.
في ظل هذه الحسابات الجيوستراتيجية الكبيرة، تبدو مسائل العلاقات الثنائية بين نظام الأسد وتركيا مجرد تحصيل حاصل. فأردوغان سيحصل من بشار الأسد على ما يريده، طالما أنه يتمتع بكل تلك الأوراق، وما يريده سيكون اتفاقات موقعة من الجهة التي تتمتع حتى الآن بالشرعية الدولية، تضمن له، ليس فقط إمكانية الاحتلال العسكري للشمال السوري المتاخم للشريط الحدودي، وتقويض الكيان الكردي، وحلحلة قضية اللاجئين، بل والهيمنة طويلة الأمد على الاقتصاد، ومشاطرة النظام للقرار السياسي السيادي السوري. بعبارة أخرى، ستتحكم تركيا بهذه الدولة الجارة المنهارة، زمناً طويلاً، على النحو الذي تتحكم فيه إيران بالعراق.
إن هذا التصور لن يتأثر كثيراً فيما لو تغيرات المعطيات الثلاثة الرئيسية الحاكمة للملف السوري في السنة المقبلة، وهي: مآل الحرب الأوكرانية الروسية، والأوضاع في إيران، والانتخابات التركية. فحتى لو خسر أردوغان تلك الانتخابات، فإن خلَفه، أياً كان، سيجد أن هذه الخطة هي أفضل الممكن.
في الجانب الآخر، أي السوري بشقّيه، النظام ومعارضته، فإن الأمور لن تجري على النحو المتفائل الذي يبشر به الفرحون بانتصار الأسد على أردوغان الذي يستجدي ويستعجل لقاءً ثنائياً على مستوى القمة. فتلك مسألة إعلامية تستهدف إعلام الناخب التركي بأن الرياح تغيرت بأعلى صوت ممكن، كما أنها ليست بالسوء الذي تخشاه بعض دوائر المعارضة السورية الأكثر ارتباطاً بأنقرة، فهُم سلاحها وعدتها، في مرحلة عنوانها العمل داخل سوريا، وتلك تحتاج إلى مزيد من الرجال التابعين المخلصين، لا إلى رمي من تم تدريبهم وتجهيزهم على امتداد عقد من الزمان، والأمر سيحتاج فقط إلى تغيير مهامهم ووظائفهم، وبعضهم لا يحتاج سوى إلى تغيير ثيابه العسكرية.
وكما أنه لا توجد جريمة كاملة، فلا لعبة محكمة في السياسة، وما يتم بناؤه اليوم والدفع باتجاه اكتماله قد ينقضه تطور في مكان ما غير متوقع ولا منظور. وهذا يبقي باب الأمل مفتوحاً لكافة الأطراف المتضررة من هذه التطورات، وعلى رأسها جمهور الثورة السورية و”نُثار” المعارضة الوطنية الديموقراطية، التي سيكون بإمكانها أن تبقى على قيد الحياة إن استطاعت الحفاظ على تدويل القضية، ومنع تحول البلاد إلى فريسة للذئاب الإقليمية، والاستمرار في التمسك بالأبعاد الوطنية والسيادية والاستقلالية. وهذا ما لن يكون ممكناً بعد اليوم من دون الانفصال عن تركيا، والبحث عن منطلق آخر للعمل مثل بلدان الاتحاد الأوربي حيث يتكون فضاء سوري واسع، مغاير لكل الموضَعات السابقة وغير متأثر بها.
المصدر: المدن