جسر: متابعات:
بات حزب العدالة والتنمية في تركيا (الحاكم) أمام تحدّيات غير مسبوقة، تتعلق بتاريخه ووحدته ومستقبله وجماهيره. أضحى معظم القادة المؤسسين والقدامى خارجه. وعمليا لم يبق منهم في القيادة سوى الرئيس رجب طيب أردوغان، والذي يكاد يختصر الحزب في شخصه. بين فترة وأخرى، نشهد استقالات أو إقالات من الحزب، وقادة يفكرون ويعملون من أجل تأسيس أحزاب جديدة من رحم حزب العدالة والتنمية، حديث عن “حزب” رجال مال وأعمال داخل الحزب، اتهامات وانتقادات وتهديدات متبادلة بين أحمد داود أوغلو وأردوغان، تنتهي بقرار قيادة الحزب إقالة داود أوغلو وآخرين من الحزب..
هكذا بات “العدالة والتنمية” بعد نحو عقدين من انطلاق مسيرته، ونجاحات كبيرة في شتى المجالات، أمام أزماتٍ مفتوحة، تتراكم يوما بعد آخر، لتطرح أسئلة كثيرة عن مستقبله، وعن كيفية الخروج من هذه الأزمات، وعن كيفية تصرّف أردوغان في مواجهة التحديات التي تعصف بحزبه الذي شكلت خسارته في انتخابات الإعادة (البلدية) في إسطنبول، ومن قبل في أنقرة ومرسين وأضنة وأنطاليا … نكسة كبيرة له، خصوصا أنه وضع كل ثقله للفوز بها، فمنذ ذلك الوقت، باتت القاعدة في تركيا مقلوبة: حزب العدالة والتنمية الذي كان مرتاحا منذ تأسيسه عام 2001 بات يعاني من الانقسامات والانشقاقات والخلافات، فيما أحزاب المعارضة التي كانت منقسمة ومشتتة وضعيفة باتت تتفق وتتحد وتستحوذ على مزيد من عناصر القوة، وتفوز في الانتخابات، وتهيّئ نفسها لمرحلة جديدة.
ما الذي أوصل الأمور إلى هذا المنعطف الحساس؟ ثمّة من يوجه المسؤولية المباشرة إلى أردوغان، إذ منذ وصوله إلى الرئاسة عام 2014، ومن ثم الانتقال إلى النظام الرئاسي عام 2017، يقول هؤلاء إن الرجل قاد الحزب بعقلية الرجل الواحد، ولم يسمع دعوات المراجعة، ولم يتقبل الانتقادات، وأبعد المستشارين الناجحين من الدائرة الضيقة للحكم، ولم يبق من حوله سوى المطبلين والمسبّحين بحمده. وهكذا بات العقل الاقتصادي الذي كان وراء النهضة الاقتصادية للبلاد، علي باباجان، مهمّشا، وجاء بصهره البيرات البيرق مكانه. وبات المفكر الأكاديمي ومنظر الحزب، أحمد داود أوغلو، مقصيا. ورجل الانفتاح محمد شمشيك يبحث عن فرص عمل مع الخارج. ومع هذه التغيرات الداخلية، استمرت حملة الاعتقالات من بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، وتواصلت الحرب ضد حزب العمال الكردستاني، وسط حملة ضد قيادات حزب الشعوب الديمقراطية وأعضائه. وباتت تهمة الإرهاب جاهزةً لكل من ينتقد أردوغان ويعارضه، وباتت صورة تركيا في الخارج صورة الدولة التي تنزلق إلى الدكتاتورية وحكم رجل الواحد. باتت تركيا تغرق خارجيا في مشكلات لا نهائية: توتر مع الولايات المتحدة على خلفية التوجه إلى عقد صفقات سلاح مع روسيا، ودعم واشنطن كرد سورية، شكوك وخلافات تاريخية مع روسيا على الرغم من التفاهمات الشكلية بخصوص الأزمة السورية، استنزاف وعجز في سورية، بعد تقدم النظام وحلفائه في إدلب وحماة، خلافات مع مصر والسعودية والإمارات، علاقات زئبقية مع إيران والعراق، غياب للثقة مع أوروبا، خوف دائم من ولادة دولة كردية في المنطقة، توتر مع اليونان بسبب جزر بحرية في إيجه، وتوتر آخر معها وقبرص في شرقي المتوسط بسبب الطاقة.. وهكذا معارك كلامية في كل الاتجاهات على وقع تعثر اقتصادي، ومخاوف من أزمة مالية بسبب تراجع سعر الليرة التركية أمام الدولار. وقد أثرت كل هذه المشكلات والتحولات على الداخل التركي، وعلى السؤال الأساسي: أين النموذج التركي الذي وعد بإسلام معتدل يتصدّى للمشكلات، ويجد الحلول لها؟
تبدو الأردوغانية أمام امتحان صعب، وكل الأنظار تتجه إلى أردوغان، وكيف سيتصرّف في مواجهة هذا الامتحان؟ هل سيكتفي بإجراء تغييراتٍ حزبية وحكومية هناك وهناك؟ أم أنه سيقوم بمراجعة شاملة، بحثا عن رؤية جديدة لقيادة تركيا إلى ما قاله عن تركيا جديدة عام 2023؟
العربي الجديد 14 أيلول/سبتمبر 2019