جسر: رأي:
بات جلياً، أن عنوان المرحلة الجديدة من الصراعات في منطقة الشرق الأوسط سيكون إيرانياً. وبينما تجنح معظم النقاشات إلى تخيل سيناريوهات عسكرية متعددة لشكل الصراع واتساعه ووسائله ونتائجه، إلا أننا نفترض وجود سيناريو وحيد للصراع يتمثل بالمواجهة بين خطتين؛ الأولى أميركية/اسرائيلية هجومية، هدفها تحويل إيران إلى دولة فاشلة، والثانية دفاعية إيرانية يحاول من خلالها النظام تثبيت المكاسب التي راكمها خلال العقود الأربعة الماضية، لإقرار قوته وتفوقه في منطقة الشرق الأوسط، واستحقاقه لدور أمني اقليمي، والاعتراف الرسمي الدولي به كممثل مركزي للشيعة في العالم. المفارقة هنا، إن الخطة الهجومية لا تستخدم القوة العسكرية سوى كمرتكز خلفي لها، بينما تقوم خطة إيران على محاولة الوصول إلى مرحلة الصراع العسكري.
استراتيجيتان متعاكستان
لتحقيق هدفها تريد إسرائيل إرغام طهران على الخوض في “حالة حرب”، وزعزعة استقرار النظام، وحشد الأعداء لها في الداخل والخارج، واشاعة عدم الاستقرار في فضائها الجيوسياسي، واستنزاف قواها بـ”الانهاك الاستراتيجي” و”الإيلام التكتيكي”، وصولاً إلى تحطيم إرادة النظام وإخضاعه، من دون خوض حرب فعليّة، إلا في حال لجوئه للتصعيد غير العقلاني، الذي سيؤدي إلى تحطيمه أيضاً، بفعل تكاثر الأعداء والخصوم وتميّزه كنظام مارق.
بينما تسعى إيران لفرض دورها من خلال الحرب أو التهديد بها، وانتزاع الاعتراف الذي تسعى إليه من خلال إثبات عجز خصومها عن الانتصار على أذرعها المنتشرة في عموم الشرق الأوسط، والقادرة على “المشاغبة” والمناوشة في مناطق وتوقيتات ومستويات متباينة ومتعددة.
إسرائيل لا تريد المواجهة العسكرية مع طهران؟
لا تستطيع إسرائيل خوض حرب تقليدية ضد إيران لعدم وجود جيش بري كاف لغزوها، وعدم وجود حدود مشتركة، ولا تستطيع شن حرب استباقية على شاكلة حرب حزيران 1967، التي فرضت من خلالها إرادتها على دول الطوق العربي، واستخدمت فيها عنصر المفاجأة، واستفادت من قدرة قواتها على المناورة، والضرب وراء خطوط “الأعداء”.
وعلى الرغم من تعدد الدول العربية التي هاجمت إسرائيل حينها، إلا أنّ الدولة العبرية كانت قادرة على إصابة مركز ثقلها بضربات الذراع الطويلة المتفوقة بالطيران، والاخلال بتوازنها، تمهيداً لهجمات برية نوعية، قادرة على الانتقال من جبهة إلى أخرى وتحقيق عنصر المناورة الاستراتيجية بديناميكية على مسرح العمليات.
أما في الحالة الايرانية فالتعددية تتمثل في أسوار ينبغي تجاوزها قبل الوصول إلى مركز توازن الخصم في العمق الايراني. ومع أن إسرائيل يمكنها أن تخترق المسافات “الحمائية” المتمثلة بلبنان وسوريا والعراق، عبر سلاحي الجو والصواريخ البالستية، لكنها بكل تأكيد ستكون عاجزة عن استثمار الغطاء الجوي لإفساح الطريق لتقدم جيشها في تلك المساحات الشاسعة، ناهيك عن الوصول إلى إيران ذاتها، التي إن لم يتم بلوغها، فإن هدف حرب من هذا النوع لن يتحقق.
من ناحية أخرى، فالقوة العسكرية الإسرائيلية مصممة لشن الحروب الاستراتيجية الخاطفة، التقليدية وغير التقليدية، وهي غير مؤهلة بنيوياً لخوض ما بات يعرف حديثاً بالحرب اللامتماثلة، التي يهدف الطرف الذي يلجأ اليها لإفشال هجوم العدو، وعدم السماح له بتحطيمه وإملاء إرادته عليه. ولا يأمل الطرف الذي يلجأ الى هذا النوع من الحرب بتحقيق انتصار عسكري، بل سياسي، من خلال البرهنة على عجز الطرف الآخر عن حسم الصراع معه، حتى لو تكبد خسائر باهظة، والاضطرار أخيراً إلى التفاهم معه سياسيا، أي الإقرار بوجوده، ومنحه بعض مطالبه.
ويتسم هذا النوع الجديد من الحروب بعدم الارتباط بعمليات عسكرية محددة الزمان والمكان، إذ تتعدد مسارح العمليات، وغالباً ما تكون جبهات المواجهة غير متوقعة، وتتفاوت توقيتات نشوب المعارك، ولا ترتبط إطلاقاً بالفعل ورد الفعل، بل برغبة الطرف الأضعف في إطالة أمد المواجهة، بالضد من رغبة الطرف الآخر الذي يستعجل الحسم. وتستخدم فيها أدوات الحرب التقليدية وغير التقليدية، والوسائل الأمنية والاقتصادية والفكرية والاعلام، كما يستخدم فيها مزيج من الأدوات البدائية والوسائل التقنية الحديثة.
بالنسبة لإسرائيل، تبدو القوة الايرانية اليوم أشبه بأخطبوط كبير، رأسه في طهران، وأذرعه تمتد إلى مناطق شاسعة وعديدة تطوقها من ثلاث جهات، والانتصار على ذلك الأخطبوط مع أقل الاضرار يتمثل في شلّ “استطالاته”، ومنعها من التصرف، وحشرها في مكان وزمان واحد، لتحاشي مخاطر الحرب اللامتماثلة، ثم توجيه ضربات قاتلة إلى الرأس. وفي هذه المرحلة يتم ادخال إيران في حرب غير معلنة من الطرف الإسرائيلي، واستنزافها بـ”حملات” بين الحروب، ودفعها أكثر إلى العزلة عبر تأليب الجوار الإقليمي، والمحيط الدولي عليها، ورفع توتر قيادتها، ودفعها لاتخاذ مواقف متسرعة ولاعقلانية، تفيد جميعها في تعميق أزمة النظام، وتقرب لحظة انهياره، أو انفجاره.
لماذا تريد طهران الحرب؟
يعاني المجتمع الإيراني من ضغوط كبيرة بسبب ضيق الوضع الاقتصادي، وتدني مستوى حقوق الانسان، وهو ما انتج الأزمة الحالية فيه على شكل احتجاجات شعبية، والتي قد تتطور لتصبح انفجاراً يهدد وجود النظام على شاكلة أحداث الربيع العربي. ولا سبيل للخروج من هذا المأزق سوى بتصدير الأزمة عبر حرب شاملة تخضع كافة فئات المجتمع الايراني، وخاصة الجيل الشاب، من خلال توظيفهم في الحالة القتالية.
لن تخوض طهران هذه الحرب منفردة، بل ستستثمر كافة الجماعات الشيعية التي دعمتها، لتورطها في حرب دائمة إلى جانبها، وجعل الجماعات الشيعية مستهدفة ومهددة، يدفعها الى التمركز والتخندق حول القطب الشيعي الأبرز في العالم، ويدعم سياسات طهران التدخلية في دول المنطقة، خاصة العربية منها.
من ناحية أخرى، ستتيح الحرب لطهران ترسيخ عناصر القوة الخشنة والناعمة التي راكمتها من دون أن تستخدمها. وبدل تعرضها للتآكل والتقادم، فمن الأفضل استثمارها في نزاع عسكري قبل فوات الأوان، خاصة مع تعرضها للعقوبات الاميركية القاسية جداً، وعلى نحو يهدد بتلاشي معظم منجزاتها أو انخفاض جدواها.
استراتيجية حرب أكتوبر وتكتيكات حرب تموز
تسعى إيران استراتيجياً إلى الهدف الذي سعت إليه مصر عند شنها مع سوريا لحرب أكتوبر 1973، ولديها ضمانة دولية بعدم تحول تلك الحرب إلى عامل تدمير كامل للنظام، يتمثل بالغطاء الروسي، حيث طورت طهران تحالفها مع موسكو إلى حلف استراتيجي يعمل على رقعة إقليمية واسعة. لكن من الناحية الاجرائية، فإن طهران تسعى لتطبيق تكتيكات حرب تموز 2006، على نحو موسع، وتعمد لاتخاذ الخطوات ذاتها ولكن على نطاق إقليمي، ابتداء من التحرش بالخصم لفرض توقيت الحرب عليه؛ خطف الجنود الإسرائيليين في 2006، مروراً بخوض حرب لامتماثلة، مدعومة بتجييش في النطاق الحيوي، وبحملة إعلامية منظمة وفعالة، وإطالة أمد الصراع وإبداء “الصبر الاستراتيجي”، وصولاً إلى “تفاهمات” وقواعد اشتباك وعمل، كتلك التي مازالت قائمة بين إسرائيل و”حزب الله” حتى اليوم، والتي مكنت الحزب من الذهاب في مهمات بعيداً عن جنوب لبنان، وتوسيع نطاق عمله وسيطرته ونفوذه. وهو ما تطمح إليه ايران في مواجهتها الحالية مع إسرائيل والولايات المتحدة.
سيناريو ديناميكي
لا يمكن التكهن بتوقيت أو وقائع هذا السيناريو الجدلي بين الخطتين الإسرائيلية والإيرانية، فهي محكومة بقدرة الجانب الإسرائيلي على “الانضباط” والالتزام بما هو مخطط له، وهو ما قد يمتد إلى سنوات. لكن الصراع يمكن أن ينزلق بشكل فجائي من خلال عمل جسور تقوم به طهران، للإفلات من براثن الخطة الإسرائيلية/الاميركية، أي “تفجير” الحالة الأمنية في المنطقة، وهو منزلق كارثي وأحمق، وسيؤدي من الناحية النظرية لوضع نهاية لنظام الولي الفقيه، لكن تلك النتيجة ليست الوحيدة بالمطلق، لاسيما بالنظر الى تجربة إسرائيل مع “حزب الله” في 2006، وبأخذ الغطاء الدولي الروسي والصيني بعين الاعتبار.
(المدن)