عن حدود “الحماية” التركية لإدلب

عن حدود “الحماية” التركية لإدلب

عن حدود “الحماية” التركية لإدلب

عن حدود “الحماية” التركية لإدلب

عن حدود “الحماية” التركية لإدلب

عن حدود “الحماية” التركية لإدلب

عن حدود “الحماية” التركية لإدلب

شارك

عن حدود “الحماية” التركية لإدلب

عن حدود “الحماية” التركية لإدلب

بعيداً عن “التسريب” الذي أوردته بعض وسائل الإعلام مؤخراً عن (يفترض أنه) مسؤول عسكري تركي؛ عن قوات تركية خاصة ستدخل إدلب لحمايتها، وهو ما لا يستقيم ولا يصح لا شكلاً ولا مضموناً، إلا أن فكرة كون إدلب “تحت الحماية التركية” تحتاج لشيء من التفكيك والتفصيل.

لا شك أن لإدلب أهمية كبيرة في المقاربة التركية للقضية السورية مؤخراً، لأسباب جغرافية وديمغرافية وسياسية وعسكرية. فهي منطقة واسعة نسبياً وقريبة من الحدود التركية، وتحتضن ما يقرب من أربعة ملايين إنسان، وهي الملاذ الأخير لعدد كبير من فصائل المعارضة السورية المسلحة القريبة من أنقرة، فضلاً عن تمركز 12 نقطة مراقبة عسكرية تركية فيها وفقاً لتفاهمات خفض التصعيد تحت مظلة أستانا.

بهذا المعنى، تضيف أي عملية عسكرية للنظام (وروسيا) في المنطقة تعقيدات كبيرة للحسابات التركية، التي ترغب بتثبيت مذكرة سوتشي وإبقاء الوضع على ما هو عليه لحين التوصل لحل سياسي. وعليه، لا يمكن تصور استعداد تركيا لخسارة إدلب كمنطقة نفوذ لها وسيطرة للمعارضة السورية، إذ سيكون ذلك خسارة عسكرية مباشرة لكليهما، وسينعكس ذلك على طاولة التفاوض والحل السياسي والتأثير في مستقبل سوريا، وقد يضع الوجود التركي في منطقتي درع الفرات وعفرين موضع التساؤل من قبل النظام وروسيا لاحقاً. بهذا المعنى، إدلب هي خط الدفاع الأول لأنقرة عن وجودها داخل الأراضي السورية.

هذا يعني أن فكرة “الصفقة” التي تتردد منذ أشهر طويلة بمقايضة إدلب مقابل المنطقة الآمنة شرق الفرات لا تصح، فمنطق العلاقات الدولية لا يقبل ذلك في ظل الخلاقات الأمريكية – الروسية. يصح منطق الصفقة في حال كان لها طرفان، أما ثلاثة أطراف، اثنان منهما خصمان تقليديان يفترض أن يستفيد أحدهما من تركيا (إدلب) ويمنحها الآخر مكسباً (المنطقة الآمنة)، فليس طرحاً ذا وجاهة.

ورغم ذلك، فإن هناك رابطاً بالتأكيد بين ما يجري في إدلب وفكرة المنطقة الآمنة شرق الفرات، هو عدم رضى روسيا عن التفاهمات التركية- الأمريكية الأخيرة. هذا التغير على صعيد موسكو ليس الوحيد مؤخراً، فقد تغيرت الأمور بشكل جذري فيما بعد محادثات أستانا 13، بدءاً من النظام وحلفائه من دول وفواعل ما دون الدولة، وليس انتهاءً بتركيا التي سيّرت على هامش التصعيد في خان شيخون رتلاً عسكرياً لدعم نقطة المراقبة رقم 9، التابعة لها.

قدمت تركيا من خلال هذه الخطوة رسالة مزدوجة، مفادها رفض محاصرة نقطة المراقبة والجنود المتواجدين فيها ومحاولة منع سقوط المنطقة بيد النظام من خلال وجود التعزيزات التركية التي كانت ستشكل رادعاً مبدئياً له. ورغم كل ذلك، فالموقف التركي لا يُفهم منه استعداد أنقرة لدخول مواجهة عسكرية مع النظام فضلاً عن روسيا؛ من أجل الحفاظ على إدلب أو حماية المعارضة السورية فيها.

وما بين نظرية المؤامرة والصفقة سالفة الذكر من جهة والتفكير الرغبوي في دفاع تركيا عن إدلب حتى الرمق الأخير من جهة أخرى؛ طيف واسع من الخيارات يمكن أن يُسَكَّنَ فيها الموقف التركي من التطورات الأخيرة والذي سيكون محكوماً (كما دائماً) أولاً بثلاثية الأولويات والتوازنات والإمكانات، وثانياً باتفاق سوتشي بخصوص إدلب، وثالثاً بمستجدات الموقف الروسي، وهو ما يتطلب بعض التفصيل.

تحدث الروس كثيراً عن إخلال تركيا بالتزاماتها في إدلب، وخصوصاً في مواجهة هيئة تحرير الشام. ولئن كانت أنقرة لا تدعي أن الأوضاع هناك مثالية أو أنها أدت كامل ما يترتب عليها، إلا أن ذلك ليس السبب الوحيد ولا حتى الأهم في الموقف الروسي الأخير. عدم رضى موسكو عن تفاهمات أنقرة مع واشنطن بخصوص المنطقة الآمنة، وفشل النظام في تحقيق اختراق ميداني منذ شهور، وجمود المسار السياسي منذ فترة طويلة؛ تبدو أسباباً أكثر منطقية لردة الفعل الروسية التي انبثقت عنها رسالة قصف الرتل التركي.

ما تريده موسكو اليوم هو إعادة التفاوض مع أنقرة بخصوص إدلب لتعديل اتفاق سوتشي أو حتى إبرام تفاهمات جديدة، وهي العادة الروسية خلال السنوات الأخيرة بالدعوة للتفاوض من خلال الضغط الميداني والرسائل الساخنة بالنار والبارود. حديث بوتين عن سيطرة “الإرهابيين” على 90 في المئة من إدلب إشارة مهمة للاختلاف الرئيس بين الطرفين في تحديد المنظمات الإرهابية، إذ يتضح من الرقم أن هيئة تحرير الشام ليست المنظمة الإرهابية الوحيدة في نظر موسكو، وإنما ينسحب التصنيف على معظم فصائل المعارضة.

بيان وزارة الدفاع التركية يشير بوضوح إلى أن الرسالة الروسية وصلت أنقرة. فالبيان الذي لم يحمّل أحداً المسؤولية المباشرة عن قصف رتله العسكري؛ أحال إلى مسؤولية ضمنية لموسكو، عبر الإشارة إلى القصف “من الجو”، والتأكيد على “الإخطار المسبق” لروسيا بخصوص الرتل، وكذلك الإحالة على “التفاهمات التركية- الروسية” بخصوص إدلب. لكن البيان نفسه يؤكد رغبة تركيا في الهدوء والحوار والابتعاد عن ردود الفعل المتسرعة و/أو الحادة، بالتأكيد على أن الضحايا “من المدنيين”، وأن القصف حصل “على مقربة” من الرتل وليس عليه مباشرة، وهو المعنى الذي أكدته تصريحات وزير الخارجية تشاووش أوغلو لاحقاً باستمرار التواصل مع موسكو.

رغبة موسكو في تعديل مذكرة سوتشي بخصوص إدلب ليست عرضاً مبدئياً أو افتراضياً، وإنما أكدته ميدانياً بوضع جنود لها على الأرض في إدلب وفق وزير خارجيتها سيرغي لافروف، ما يعني أن الكرة الآن في ملعب أنقرة. وبهذا المعنى، وفي ظل إصرار روسيا ودعمها الكامل للنظام ونبرتها المختلفة هذه المرة، ومع غياب أي موقف دولي واضح في رفض عمليات النظام وروسيا، والاتهامات الموجهة لتركيا بدعم الإرهاب إذا لم تسارع للإيفاء بالتزاماتها، يمكن القول إن مساحات المناورة لدى الأخيرة أقل بكثير مما كانت عليه سابقاً. فما المتوقع؟

ثمة مسارات يمكن توقع تعاون أنقرة بخصوصها، مثل عمق المنطقة منزوعة السلاح الثقيل والخالية من المسلحين وفتح الطرق الدولية (وهو أحد أهم أسباب حصار خان شيخون) باعتبارها من بنود اتفاق سوتشي نفسه، ما يضعها ضمن رزمة الالتزامات التركية.

وفق هذه الرؤية، لن يكون من الصعب توقع وجود حوار روسي- تركي مكثف وموسع خلف الأبواب المغلقة هذه الأيام بعد قصف الرتل التركي، وهو ما يمكن أن تنتج عنه تفاهمات جديدة قد وقد لا يعلن عنها، لكنها تصب في السياقات سابقة الذكر، وخصوصاً العمل على فتح الطرق الدولية قريباً.

أكثر من ذلك، لا تملك تركيا على المدى البعيد المسوغات القانونية والقدرات العسكرية والرغبة السياسية للدخول في مواجهة عسكرية للدفاع عن إدلب. ما تريده أنقرة وتحاول فعله هو التهدئة ومحاولة الحفاظ على الوضع القائم، ودعم المسار السياسي.

لكن خسارة إدلب تماماً أو كسر المعارضة السورية بالكامل، أو حصول موجة لجوء كبيرة إلى أراضيها، تبدو اليوم خطوطاً حمراء بالنسبة لتركيا، وتملك بالتأكيد إزاءها أوراقاً يمكن تحريكها. بعض هذه الأوراق سياسي- دبلوماسي؛ تتمثل في الحوار مع موسكو ومحاولة التحصن بموقف دولي قد لا تحصل عليه. لكن الخطوات الأهم ستكون ميدانية ومن شقين: تعزيز ودعم نقاط المراقبة العسكرية الأخرى والتواجد التركي العسكري في إدلب بشكل عام، وكذلك رفع مستوى جاهزية الفصائل السورية المقاتلة في المنطقة، وبما يشكل الدعم اللوجستي والتسهيلات الميدانية، وكذلك التسليح غير الاعتيادي، كما حصل سابقاً حين كانت عملية النظام مسألة وقت واستطاعت أنقرة تأجيلها في حينه بخطوات شبيهة.

في الخلاصة، فإن الموقف التركي في إدلب في غاية التعقيد والتركيب، ولا يمكن تفسيره بالثنائيات الحادة، إذ لا يصدق فيه كلام الصفقة المباشرة ولا الدفاع المستميت، وإنما هو موقف مبنيٌّ على عدة اعتبارات بعضها ثابت والآخر متغير. وبالتالي، يمكن الحديث عن مروحة خيارات أمام أنقرة في إدلب، لكن ليس من بينها حتى اللحظة تسليم كامل إدلب للنظام، ولا خوض معركة عسكرية مع روسيا للدفاع عنها.

يبقى أخيراً أن نذكّر بأن الفاعل المحلي ما زال مهماً ومؤثراً في المعادلة الميدانية، رغم ما تعرض له على مدى السنوات الأخيرة من تهميش وتراجع، ورغم تغير ديناميات القضية السورية وارتفاع مستوى التدخل الخارجي فيها.وما زال برأينا قادراً على الفعل ورد الفعل، بل والتأثير في القرارات والتوجهات الإقليمية ومسار الأحداث إلى حد معقول.

عربي ٢١ الأربعاء، 21 آب/ أغسطس ٢٠١٩

شارك