جسر: متابعات:
في الذكرى السبعين لإنشاء حلف شمال الأطلسي، تستضيف لندن، في 3-4 كانون الأول الحالي، مؤتمر قمة للدول الأعضاء، مهدت لها توترات كبيرة بين بعض الدول الأعضاء إلى حد حديث بعض الصحافة العالمية عن “تفجير القمة”.
النقطة الخلافية الأبرز التي ستحاول القمة تذليلها هي القرار التركي باستخدام حق النقض (الفيتو) بشأن الخطة الأمنية لحماية دول البلطيق + بولونيا في مواجهة الخطر الروسي المحتمل. فقد ربطت القيادة التركية موافقتها على تمرير هذه الخطة بتبني الدول الأعضاء لاعتبار “وحدات حماية الشعب” الكردية في سوريا منظمة إرهابية، الأمر الذي يرفضه جميع الدول الأعضاء في الحلف بدعوى أن الوحدات الكردية هي حليف التحالف الدولي لمحاربة داعش.
وقد استبقت كل من تركيا وفرنسا انعقاد القمة بتصريحات حادة كل منهما بحق الأخرى. ففي حين انتقد الرئيس الفرنسي ماكرون العملية العسكرية التركية في شمال شرق سوريا، اعتبر وزير الخارجية التركي أن تصريحات ماكرون تشير إلى دعم فرنسا للإرهاب. كذلك انتقد ماكرون شراء تركيا لمنظومة الصواريخ الروسية إس 400، قائلاً إن دولاً أوروبية عرضت على تركيا بيع منظومات دفاع جوي، بعد امتناع الولايات المتحدة عن بيع صواريخ باتريوت إلى تركيا، لكن الأخيرة فضلت شراء الصواريخ الروسية.
وعموماً تحضر روسيا في خلافات القمة كفاعل رئيسي، بسبب محاولاتها شق صفوف الحلف باجتذاب تركيا، سواء في موضوع الصراع في سوريا أو في موضوع التسليح الاستراتيجي. فإضافة إلى منظومة الصواريخ التي أخرجتها أنقرة من “الأمبلاج” بهدف “تجريبها” عشية انعقاد القمة، في خطوة رمزية استفزازية تجاه حلفائها الغربيين، يدور الحديث عن استعداد روسيا لبيع تركيا طائرات سوخوي متطورة بديلاً عن طائرات إف 35 الأمريكية التي امتنعت واشنطن عن إتمام بيعها لتركيا. وفي واشنطن صدر التقرير الخاص بعملية عزل الرئيس ترامب بسبب علاقته بالقيادة الروسية وسوء استخدامه للسلطة بهذا الخصوص.
وتحضر روسيا أيضاً في تفسير هجوم الرئيس الفرنسي ماكرون على حلف الناتو الذي وصفه بأنه في حالة “موت سريري”. فهو يقول إنه يريد لحلف الناتو أن يكون أكثر فاعلية، ويطالب بإخراج روسيا من قائمة المخاطر أو الخصوم ليحصرهما في الإرهاب العالمي وحده، ويدافع عن تعاون الحلف مع روسيا بدلاً من معاداتها أو اعتبارها خطراً.
أما دونالد ترامب فموقفه معروف من الحلف الذي يعتبره عبئاً على ميزانية بلاده، ويتهم الدول الأوروبية بالبخل في الإنفاق على متطلبات الحلف المالية. يمكن القول، إذن، أن كلاً من ترامب وماكرون يعملان على تفكيك الحلف، بصرف النظر عن قدرتهما على تحقيق ذلك. لكن اللافت في الأمر هو شبهة الأصبع الروسية في هذه التطورات، إضافة إلى الدور الروسي الصريح في محاولة إبعاد تركيا عن الحلف.
في عودة إلى الفيتو التركي على الخطة الأمنية لحماية دول البلطيق الثلاث وبولونيا من الخطر الروسي المحتمل، نلاحظ أنه لا مصلحة استراتيجية لتركيا في إفشال هذه الخطة، بل هي مصلحة روسية صريحة، كما لو أن تركيا تحولت فعلاً إلى “لغم روسي” داخل الحلف لعرقلة أي توجهات ضد روسيا فيه. واقع الحال ليس كذلك طبعاً، فتركيا لم تعلن قط أي نوايا للانسحاب من الحلف، على رغم علاقتها التكتيكية مع روسيا بشأن الصراع السوري. بل إن الدوائر الغربية هي التي تدعو لطرد تركيا من الحلف بسبب صفقة الصواريخ الروسية. إن الرائز التركي في استخدام حق النقض بشأن الخطة الأمنية لدول البلطيق، إنما هو استماتتها في الحصول على موافقة حلفائها الغربيين على اعتبار وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا منظمة إرهابية. الفيتو التركي هو، إذن، بهدف الابتزاز: واحدة مقابل واحدة، وليس من منطلق خلاف سياسي مع دول البلطيق المعنية بالخطة.
لكنه ابتزاز في غير محله. فما علاقة دول البلطيق بالصراع في سوريا أو بوحدات حماية الشعب التي لا تعتبرها أي دولة في العالم منظمة إرهابية باستثناء تركيا ونظام الأسد؟ مع العلم أن موقف هذا الأخير هو موقف أملته شروط ظرفية، قبل أشهر، وعاد إلى مطالبة تلك الوحدات بالانضمام إلى جيشه.
في تسعينيات القرن الماضي شكلت القضية الكردية، وحزب العمال الكردستاني ضمناً، البوصلة الحصرية في تحديد السياسة الخارجية التركية، فكانت علاقاتها بجميع الدول تتحدد بمواقف تلك الدول من القضية المذكورة. ثم جاء حكم حزب العدالة والتنمية، واتجه نحو إيجاد حل سلمي لها، فتفاوض مع حزب العمال الكردستاني طوال سنوات، واتخذ بعض الإجراءات الإيجابية كبوادر حسن نية، الأمر الذي سمح للسياسة الخارجية التركية بالانطلاق نحو آفاق جديدة قائمة على التعاون الاقتصادي والانفتاح الثقافي والسياسي على دول الجوار كما على الدول البعيدة. كل ذلك أصبح اليوم في خبر كان. وها هي السياسة الخارجية لتركيا تعود إلى أجواء الانغلاق وكسب مزيد من الخصوم في المجتمع الدولي، كل ذلك بسبب عودة المنظور الأمني لحل الصراع الداخلي والمشكلة الكردية التي تشكل أساسها.
لا يحتمل أن تخضع الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي للابتزاز التركي. بل يرجح حصول تسوية ما بتنازلات من الطرفين، لا نعرف ماذا يمكن أن تكون. أما إذا تمسك الطرفان بموقفيهما، فسوف تزداد المطالبات داخل الحلف بطرد تركيا منه. وفي جميع الأحوال لن تحدث تطورات دراماتيكية خلال يومين، بل ستعمل كل من تركيا وحلفائها اللدودين على شراء مزيد من الوقت، بترحيل الخلافات إلى لجان وأطر لمواصلة المباحثات.
وحده فلاديمير بوتين يبتسم مبتهجاً بهذه الخلافات الحادة داخل حلف شمال الأطلسي.
(القدس العربي)