تهيمن تركيا على منطقة إدلب، وتحاول تفكيك الفصائل الجهادية التي تصنفها موسكو “إرهابية”، واخضاعها بالتدريج، مستعينة على ذلك بوجود عسكري خفيف يتمثل بنقاط المراقبة، وبـ”الجيش الوطني السوري” التابع لها. بينما استكملت روسيا مؤخراً الهيمنة على الجزء الأهم من مناطق سيطرة الفرع السوري لحزب “العمال الكردستاني”، الذي تصنفه أنقرة كمنظمة “إرهابية”، وتعمل موسكو على تفكيك هذا الكيان العسكري بالتدريج، بالتفاهم مع انقرة. ويحدث كل ذلك، وفق تناوب للنشاط شرقي الفرات وغربه، وتفاهم واضح بين شريكي مسار سوتشي، للوصول إلى حل متكامل، قد يتمكن في نهايته النظام السوري من بسط “سيطرته” على إدلب، والجيوب التي تسيطر عليها تركيا في منطقة الحدود الشمالية، لكن ليس قبل فقء “الدمّلة” الكردية على خاصرة تركيا الجنوبية، تماماً، وربما إلى الأبد.
خطوة متزامنة شرقاً
التوافقات الروسية/التركية المتناوبة شرقي الفرات وغربه، انتهت تقريبا من انجاز خطوة كبيرة شرقاً، تمثلت بالاقرار بالسيطرة التركية على الجيب بين تل ابيض ورأس العين، والاتفاق على أن يكون الطريق الدولي M5، تحت السيطرة الروسية. وبادرت فصائل “الجيش الوطني” التي تأتمر بإمرة الأتراك بالانسحاب إلى شماله، واخلاء كل من صوامع الشركراك والعالية القريبتين منه. وينتظر أن تبسط قوات النظام والشرطة العسكرية الروسية وجودهما الفعلي على طول منطقة التماس، ليكون ذلك بمثابة انتهاء للعمليات العسكرية لـ”قوات سوريا الديموقراطية” هناك، وفرض الامر الواقع بسيطرة تركيا على منطقة تل ابيض-رأس العين في المدى المنظور. إلى ذلك، يبقى التهديد بالسماح للاتراك باستكمال هجومهم واحتلال البلدات ذات الكثافة الكردية على الحدود، سيفاً مسلطاً على رقبة قادة قنديل، الذين سيتوجب عليهم الصمت والكف عن مناوشة تركيا في ما أقطع لها.
وخطوة مرتقبة غرباً
بناء على ما تقدم يأتي الدور على الشمال الغربي، في إدلب، ليكون مدار خطوة أخرى إلى الهدف الروسي-التركي، حيث بدأ الطيران الروسي وقوات نظام الأسد بشن الهجمات، خاصة على البلدات الواقعة على الطريق الدولي حلب-دمشق. وبادر الجهاديون للهجوم في بعض المناطق كنوع من جس النبض، بعدما استشعروا أن هجوماً ما يحضر في الجانب الآخر.
وفي هذه الاثناء بدأ الاتراك بدفع تعزيزات لقواتهم في نقاط المراقبة الـ12، استعداداً لفصل مقبل، سيكون بحاجة إلى انتشار تلك القوات في المنطقة الفاصلة، بالتشارك مع “الجيش الوطني”، أي على شاكلة انتشار الشرطة العسكرية الروسية مع قوات النظام شرقي الفرات. وثمة طريق هنا يجب أن يفتح، هو مبدئياً طريق دمشق-حلب وربما في “خطوة” أخرى، طريق حلب-اللاذقية.
الهجوم الواسع المرتقب في منطقة ادلب، سيشن قبل أو بعد اجتماع سوتشي المقبل، في 10 أو 11 كانون الثاني، والذي صار غرفة عمليات لتنسيق الخطوات نحو الأهداف.
ماذا عن الجهاديين و”العمال الكردستاني”؟
شأن الجهاديين المسيطرين ميدانياً في الغرب، شأن “العمال الكردستاني” في الشرق، وكلاهما في طور الخسارة والانحسار، بشرياً وجغرافياً. قوتهم تنحسر لصالح قوى إقليمية ودولية، لم تعد بحاجة لتوظيفهم، وشعبيتهم في تناقص بعدما أصبحوا عبئاً ثقيلاً على المجتمعات التي يهيمنون عليها، وأخيراً ترتطم “ايديولوجياتهم” المتشددة بجدار المصالح السياسية الذي لا يمكن اختراقه.
وهناك من يرغب بالحفاظ على بقائهم، مرحلياً على الأقل، ولكن ضمن حدود الاستخدام الممكن لا أكثر. تركيا تعلم أن الجهاديين هم الورقة الأخطر التي يمكن ان تهدد بها خصومها، وروسيا ذاتها تعلم أنهم ورقة التوت التي تستر جرائمها بحق المجتمعات المعارضة من جهة، وسلاحاً استراتيجياً محتملاً لتخويف الغرب. وتنطبق هذه المعطيات على “العمال الكردستاني” شرقي الفرات بطريقة مقلوبة أيضاً.
بعض التنظيمات الجهادية في إدلب، وفروع “العمال الكردستاني” في الشرق السوري، دخلت في مرحلة الجمود، ولن تثبت طويلاً عند هذه الحالة، بل ستدخل تحت الضغط مرحلة التفكك المتسارع. وبالنسبة للأكراد، بدأت معالم التفكك بانشقاق المقاتلين الهرب عن “قوات سوريا الديموقراطية” بالتدريج، والالتحاق بقوات النظام أو “الجيش الوطني”، أو الذهاب إلى بيوتهم تحاشياً للقتل على يد مختلف القوى. فيما بدأت صفوف الجهاديين تعاني من الانشقاقات البينية، وتسرب العديد من مقاتليها شرقاً باتجاه مناطق العمليات التركية، والانضواء تحت إمرة فصائل غير مصنفة إرهابية، وتحظى بغطاء إقليمي.
الشبح الأميركي ماثل أيضاً
يجري كل ذلك بمعزل ظاهري عن القوات الاميركية المتموضعة شرق الفرات، والتي تواصل عملياتها بدأب ضد خلايا تنظيم “داعش”، لكنها لا تتورع عن مد يدها سواء إلى مناطق السيطرة الروسية شرقي الفرات، او مناطق السيطرة التركية غربه. وتتحرك دورياتها وقوافلها على الطرقات التي تسيطر عليها روسيا وقوات النظام وكأنها غير موجودة، وتبني القواعد الجديدة حيث تشاء شرقي الفرات، فيما تستهدف طائراتها الجهاديين في ادلب كلما وردت معلومات ذات قيمة عبر ما يبدو إنه جهاز امني نشط لها في تلك المنطقة، وكان أخرهم مدرب عسكري جهادي “مستقل” مرتبط بـ”هيئة تحرير الشام”، من أصول جزائرية.
لا حل بلا واشنطن.. لكن ماذا تريد؟
الجهات الفاعلة على الأرض، تتألف من قوى وخطوط فصل واضحة جداً، يغلف بعضها البعض، ويغطيها في النهاية جميعاً الوجود والإرادة الاميركية، التي لا يبدو أنها مكترثة بالانخراط في ما تحيكه المستويات الأدنى وما ترغب به، سواء كانت دولة “عظمى” مثل روسيا، أو حليف “استراتيجي” مثل تركيا، او حليف محلي مثل الأكراد، أو خصوم معلنين مثل الجهاديين ونظام الأسد. لكن ماذا تريد؟ وماهدف واشنطن الاستراتيجي من الوجود في سوريا؟
يكاد يكون الجواب الوحيد المقنع هو أن هدف الوجود الأميركي في سوريا، هو الوجود الاميركي في سوريا، لا أكثر ولا أقل. وهو وإن لم يكن منتجاً لحل، فإنه قادر على عرقلة كافة الحلول، وعدم السماح لا لأصدقائها ولا خصومها، انجاز شيء بمعزل عنها وعن مصالحها. وذلك بقطع النظر عن وجود مصالح لها.