تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 1/3

تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 1/3

تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 1/3

تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 1/3

تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 1/3

تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 1/3

تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 1/3

شارك

تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 1/3

تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 1/3

جسر – محمد سبسبي

لا يشبه ما حدث في مدينة حلب أواخر عام 2016 ما حدث في أي مدينة سورية أخرى، على الأقل في نظر أبنائها، الذين عاشوا تلك المرحلة وما زالوا يعايشونها في وجدانهم و ذاكرتهم. فداحة المصاب أحالت الذكريات جراحاً نازفة وأعيت كثيراً من المحاصرين عن وصف ما عايشوه، ومع حلول الذكرى الرابعة لحصار مدينة حلب وتهجير أهلها، تتقادم جراحهم و تنحل عقدة ألسنتهم ويتخففون من عبء الذاكرة التي تختزن آلاف الصور والمشاعر من تلك المأساة التي تبقى عصية على النسيان.

حصار أول ونصر عابر

لم أكن أدري وأنا أقطع طريق الكاستلو متجهاً إلى حلب أن رحلتي على هذا الطريق ستكون الأخيرة رفقة زوجتي الحامل في شهورها الأولى. كنا نقيّم مخاطر البقاء في مدينة تتعرض يوميا لقصف لا يهدأ، ونتساءل: هل أضعنا فرصة مهمة للعيش في تركيا بعيداً عن مخاطر البراميل المتفجرة؟! لكن القصف ليس سبباً كافياً يدفعنا لمغادرة مدينة كحلب! بعد 5 أشهر وفي تموز/ي وليو أطبق النظام وميليشياته الحصار على المدينة بعد سيطرته على طريق الكاستيلو، وهو شريان الإمداد الأخير لمناطق المعارضة.

كنت في مواجهة حصارين معاً، حصار المدينة وحصار المشاعر التي كبلتني بالندم والعجز، كيف لي أن أحافظ على هذه الأرواح التي هي أمانة في عنقي، زوجة وطفلين وجنين؟ بدا الناس متماسكين وأظهروا عزماً على الصمود في ظل أخبار تبث التفاؤل في نفوس المحاصرين، من قبيل أن معركة كبيرة لفكّ الحصار يتم التحضير لها، وأن الفعاليات العسكرية والمدنية قد أعدت العدة لأسوأ السيناريوهات التي قد تحدث، والأهم أن المجتمع الدولي ودول الجوار لن يقفوا موقف المتفرج أمام حصار مدينة بحجم حلب وثقلها، وعلى مثل هذه الأخبار كنا ننام ونصحو منتظرين ذلك اليوم الموعود.

يبدو أن جزءاً من الأخبارالمتداولة أو الشائعات أصبح أقرب للتحقق، ففي حين اتخذ المجتمع الدولي وضعية المتفرج الصامت فإن الأخبار عن معركة فك الحصار عن المدينة أصبحت حقيقة. انطلقت المعارك في نهاية تموز باتجاه منطقة الراموسة والقواعد العسكرية فيها تحت مسمى ملحمة حلب الكبرى، أوتسميات إعلامية أخرى مثيرة للجدل، لكننا كمحاصرين في الداخل لم نكن نتطلع لأكثر من فك الحصار عنا تحت أي مسمى، وكان ذلك!

لا تُنسى لحظات النصر تلك وقد غمرت فيها البهجة نفوس الناس، وصلت أول شاحنة تحمل الخضار والفواكه تتقدم موكباً كبيراً من سيارات المحتفلين وكأنها موكب لزفاف عروس، وتبادلت النسوة أحاديث الحياة اليومية، فأصرّت زوجتي على أن الغداء الأول بعد الحصار لن يكون أقل من وجبة مشاوي، بينما لم يتنازل بعض الأصدقاء عن مطلبهم في وجبة “سفرجلية”، وهي أكلة حلبية خليقة بمثل هذه المناسبات كما يقولون، وجرت معظم هذه الأحاديث على وقع أطباق “حلوان النصر” التي لم تفارق الأيدي، ولم يكن متوفراً من تلك الحلويات إلا أكلة شعبية تعرف بـ”الخبيصة”، لكن ما يهم هو رمزية المناسبة وتوثيقها بطبق حلويات على طريقة معظم الحلبيين في تخليد ذكرياتهم!

حصار ثانٍ بطعم الموت

في نهاية الأسبوع الأول استعاد الطيران نشاطه في استباحة المدينة، وبدا أننا على أبواب حصار جديد بعد أن شن النظام وميليشياته هجوماً معاكساً استعاد خلاله ما خسره في الراموسة وفرض حصاراً أكثر قسوة من سابقه خلال أقل من شهر. سرت أحاديث شتى بين الناس عن خلافات بين الفصائل المقاتلة، فقيل إن فصائل إسلامية اكتفت بما حصلته من غنائم في المعركة الأولى وانسحبت، وتناقل البعض، همساً، أحاديث عن تواطؤها مع دول إقليمية في تسليم حلب بعد أن أشاعت بين الناس بأن “جحافلها” لن تقف قبل الوصول إلى ساحة سعد الله الجابري وسط حلب! فحتى خطيب أحد الجوامع الذي لطالما حثنا على الصمود والتشبث بالأرض لم نجد له أثراً، وعرفنا لاحقا أنه كان من أوائل المغادرين بعد فك الحصار الأول.

بغض النظر عما قيل و مدى موثوقيته، فإنه لا يغير شيئاً من الواقع. كان فقدانُ المواد الغذائية وارتفاع أسعارها أسرعَ من المتوقع، انشغل الناس بفرحة النصر العابر فلم يخزّنوا ما يكفي من المؤن الغذائية والمحروقات والدخان. لم يكن في بيتي سوى ما استطعتُ شراءه بين الحصارين، قليل من المواد الأساسية كالرز والبرغل والعدس، ومع اشتداد الحصار اكتشفنا أن كل المواد أساسية عندما تُفقد، ولا يمكن الاستغناء عنها. خلال الأسابيع الأولى كانت “المجدرة” وجبتنا الرئيسة والوحيدة تقريبا، ومع ندرة السمنة كانت تُطبخ بزيت نباتي ودون بصل، تخيل أن تتناول طبق “مجدرة” دون بصل وأنت محاصر! أي بؤس هذا! مع بدايات الحصار يُشعرنا فقدان البصل بثقل الحصار وشراسته! حقاً لم أتخيل يوما أن نفسي تختزن كل هذا الحنين إلى البصل! يا لِسواد الأيام التي تنتظرنا إذاً!

أما الخبز، وهو قوت شعبي لا يمكن الاستغناء عنه، فكان يوزع بإشراف السلطات المحلية في بداية الحصار، وكلما تقدم الحصار فقد الخبز شيئاً من خواصه التي نعرفها شكلاً وطعماً، وبعد النقص الحاد في الطحين تم استبداله بحبوب متنوعة، وبخاصة حبوب الفاصولياء البيضاء، تُطحن دقيقاً ثم تُخبز، لتأخذ في النهاية شكل الخبز وطعم الفاصولياء، اثنان بواحد، يا إلهي! لو دار بخلدي يوما أن أطلب خبزاً بطعم الفاصولياء من أشهر أفران المعجنات في حلب لبدا الأمر مضحكاً!

شارك