جليلة الترك
في زيارة تاريخية مفاجئة، وبتوقيت ملفت يأتي بعد سويعات قليلة من القسم الرئاسي الجديد لبشار الأسد، حطّت طائرة وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” في مطار دمشق. هي الزيارة الأولى من نوعها لمسؤول صيني رفيع المستوى إلى سوريا منذ بدء الثورة في آذار ٢٠١١، وذلك على الرغم من الدعم الذي يحظى به نظام الأسد من الحكومة الصينية على مختلف الصعد، أبرزها على المستوى السياسي حيث استخدمت الصين حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي ٤ مرات لصالح الأسد.
المصادر التي أعلنت عن خبر الزيارة قبل حصولها بيومين فقط، لم تستبعد حضور وزير الخارجية الصينية مراسم القسم الرئاسي الجديد لبشار الأسد وهو ما لم يحصل، حيث استهل الضيف الصيني زيارته بلقاء مع وزير خارجية الأسد فيصل المقداد في مقر وزارة الخارجية، ومن ثم تبع ذلك لقاء مع رأس النظام بشار الأسد، وغادر بعدها الضيف متوجهاً إلى القاهرة ومن ثم إلى الجزائر.
من جهتها غطّت وسائل الإعلام الروسية وتلك التابعة لنظام الأسد والمقرّبة منه الزيارة باهتمام بالغ، بينما لم تكن التغطية في وسائل الإعلام العالمية على قدر من الاهتمام الذي تستحقه ربما، حيث يرى كثيرون أن هذه الزيارة إلى المنطقة تحمل رسائل صينية هامة، فيما يتعلق بالنفوذ الصيني على الساحة الدولية، خاصة بعد ما صدر من مجموعة السبع حول الصين، وبالذات إلى دمشق في ظل العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على نظام الأسد.
وبالنظر إلى أبعاد القضية السورية وسياقاتها فإن هناك عدة عوامل يمكن أن تدعم وتحفّز التحرك الصيني تجاه سوريا منها
1- حاجة سوريا إلى إعادة الإعمار في ظل انهيار اقتصادي غير مسبوق، وذلك بعد فشل المساعي الروسية في تحقيق أي تقدم مع الاتحاد الأوروبي والدول العربية والمنظومة الدولية بخصوص هذا الملف وأيضاً في ملف إعادة اللاجئين.
2- مساعي بعض الدول العربية لإعادة تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد بما يشمل عودته إلى الجامعة العربية، وهذا ما يعتزم طرحه العاهل الأردني عبد الله الثاني على الرئيس بايدن في زيارته المرتقبة إلى واشنطن.
3- انتخاب بشار الأسد لولاية رئاسية جديدة تمتد ل ٧ سنوات قادمة ومرور الانتخابات دون رد فعل غربي، أو عربي ذو مفعول يمكن الحديث عنه مما يغري الصين باستقرار النظام في سوريا.
4- الانسحاب الأمريكي من المنطقة والذي يعلو طابعه الخيبة بعد ٢٠ سنة في أفغانستان وما يمكن أن يستتبعه من انسحاب من العراق وسوريا حيث تتعرض القوات الأمريكية المتواجدة هناك إلى هجمات متكررة.
5- مبادرة الحزام والطريق التي أصبحت جزءاً من الدستور الصيني والتي تشكل سوريا فيها موقعاً تاريخياً هاماً بالنسبة للصين، التي تسعى إلى تسيّد العالم اقتصادياً. وكان وزير الخارجية الصيني تحدّث من قلب دمشق عن تلك المبادرة في زيارته.
ولكن بنفس الوقت هناك متغيرات لا يمكن إغفالها في مقاربة التوجه الصيني نحو دمشق، وهي التي من الممكن أن تكبح جماح النهم الصيني للنفوذ في هذه البقعة حول العالم، حتى وإن كانت تلك المتغيرات وقتية أو ظرفية، ومنها:
1- انسداد أفق الحل السياسي في سوريا وكثرة اللاعبين على الساحة السورية، وإذا ما قلنا أن الروس والإيرانيين محسوبون مع الصين في نفس المحور، يبقى هناك الوجود العسكري الأمريكي والتركي القادرين في أي لحظة على إعادة خلط الأوراق إذا ما كانت الأمور ستتجه بعيدا عن مصالحهم.
2- تحذيرات أمريكا لحلفائها العرب من مغبة إعادة تطبيع العلاقات مع نظام الأسد بما يشمل عودته إلى الجامعة العربية، قبل انصياع النظام للقرارات الأممية المتعلقة بالحل السياسي في سوريا.
3- العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على نظام الأسد والتي من الممكن أن تطال الشركات الصينية التي تطمح للاستثمار في سوريا ودعم النظام بدون تحقيق أي انتقال سياسي هناك وهي بذلك مغامرة لا يمكن للصين تحمل أعباءها في ظل سعيها الدائم للنمو الاقتصادي.
4- إمكانية استصدار قوانين دولية جديدة بفرض عقوبات مشابهة لقانون قيصر على نظام الأسد وذلك على خلفية ملف “وثائق فيكتوريا” التي كشف عنها الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة مؤخراً، والتي تثبت مجدداً بالوثائق ارتكاب نظام الأسد جرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين السوريين.
5- تعثّر المفاوضات الدولية بخصوص ملف الاتفاق النووي الإيراني، مما يعني بقاء الوضع في حالة الشد والجذب وانعكاس ذلك على المنطقة في عدم الاستقرار وبالأخص في سوريا التي تشكل ساحة صراع رئيسية بين إسرائيل وإيران.
وفي جولة نقاش سريعة مع عدد من خبراء السياسة والجيوسياسة للوقوف على آرائهم فيما يتعلق بهذه الخطوة الصينية ومفاعيلها، بدا واضحاً الارتباك والحذر في تحليل وقراءة الزيارة عند البعض، حيث عزوا الأمر إلى أن القضية السورية أصبحت معقدة جداً والمشهدية ضبابية مما يجعل القراءة فيها ليست بالشيء اليسير وأنهم بحاجة لبعض الوقت لفهم طبيعة الحدث المستجد، ومنهم من رأى أن التحرك الصيني نحو دمشق هو عبارة عن ابتزاز للحلفاء والخصوم بنفس الوقت وربما لا يقف عند حدود سوريا والمنطقة، في إشارة إلى التحركات الأمريكية في المجال الحيوي الصيني، وما صدر عن اجتماع قمة السبع حول الصين مؤخراً.
وكان أهم وأفضل ما سمعته أن الخطوة الصينية تجاه دمشق لها علاقة بالحضور الدولي بمواجهة أمريكا وذلك بعد أن احتلت الصين مواقع متقدمة في أفريقيا من البوابة الاقتصادية، لكن يمكن أن تكون بمشاركة مع الروس، فالروسي يهمه تشكيل جبهة بمواجهة أمريكا، والصينيون يلبون ذلك اقتصادياً. ويمكن أن يكون الأمر لتسهيل المشروع الصيني حول طريق الحرير والتيار الشمالي الذي تريده الصين وتعمل له لتصل إلى أوروبا. وشمال سوريا وخاصة حلب يرتبط اسمها بطريق الحرير تاريخياً.
المهم أن إعلان الرغبة الصينية لدخول الساحة الدولية وهي أقدر الدول اقتصادياً، يأتي تتويجاً للذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني بحضور دولي لافت. وكان أغرب ما سمعته أن الصين جادة جداً في تحركها نحو سوريا وربما تعمل لاحقاً على مشروع قرار في مجلس الأمن يتضمن إخراج جميع القوات الأجنبية منها تحقيقا للاستقرار الذي يشكل أهم الدعائم بالنسبة للاستثمار والتنمية الاقتصادية.
برأيي الخاص، فإني لا أتصور انجاز أي استقرار في سوريا دون انتقال سياسي يحقق طموحات السوريين التي ناضلوا ويناضلون من أجلها، وأن الثورة السورية لا تلبث أن تستعيد زخمها إذا استطاعت المعارضة السورية إعادة ترتيب أوراقها واستعادة قرارها وبالتالي فرض نفسها على الساحة بقوة، وما زلت أرى أن الولايات المتحدة لا تزال تملك مفاتيح معظم ملفات المنطقة، وهي الأكثر قدرة على التأثير فيها إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر، وعليه فإن التحرك الصيني في سوريا مرهون بمسايرة المصالح الأمريكية، بما يعنيه عدم اتخاذ الأمور لأي مسار تصادمي تصعيدي وبقاء سوريا ساحة للبازارات الدولية.